نشرة الأقصى الإلكترونية

(ماذا أقول بعد أربعين عاما من احتلال المسجد الأقصى المبارك)

بيت المقدس.. والأرض المباركة

بين التركيز على المقدسات وتضييع الثوابت

نبيل شبيب

لا شكّ أن قضية أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلّم هي في المقدمة من بين المسائل العديدة ذات العلاقة بمسرح أحداث قضية فلسطين، ولكن هل يمكن القبول بأن تطغى هذه المسألة الجوهرية الأولى على سواها في القضية؟.. ولا شكّ في ضرورة التركيز على بيت المقدس والمسجد الأقصى المبارك بكلّ ما يضمّه من مساجد ومدارس ومنشآت وأروقة وباحات، واعتباره في مقدّمة الخطوط الحمراء في سائر ما يجري من تحرّكات على المسرح الإقليمي والدولي للقضية، ولكن هل يمكن القبول بالتخلي عن ثوابت أخرى بدعوى عدم المساس بهذا الخط الأحمر القائم في المقدّمة منها؟..

 

لا تضعوا العقبات في وجه المستقبل - أساليب في التضليل - سياسة التريط المرفوضة - التسويات والثوابت

 

لا تضعوا العقبات في وجه المستقبل

لا شكّ في أن تحرير الجزء الشرقي من المدينة المغتصبة، وإعلان دويلة فلسطينية، والحصول على بعض الحقوق التي ينتظرها أهل فلسطين وهم تحت ويلات الاحتلال وفي محنة التشريد منذ عشرات السنين، هدف من الأهداف الرئيسية المطلوب تحقيقها بمختلف السبل، ولكن هل يمكن القبول بسبيل تنطوي على جرّة قلم تمحو كلّ ما عدا ذلك من أرض الأنبياء المباركة، ما بين الجولان وسيناء وبين البحرين الأبيض المتوسط والميت، من ذاكرتنا البشرية، وهمساتنا الأدبية، ومصطلحاتنا الفكرية، ومن خرائط الجغرافيا وسجلاّت التاريخ ومناهج تدريس الأجيال المقبلة؟..

قضية فلسطين ليست قضية بيت المقدس فقط، وليست قضية المسجد الأقصى المبارك فحسب، وقضية فلسطين ليست قضية حدود النكبة الثانية عام 1967م، ولا يمكن أن يستوي منطقا ولا واقعا أن ندفع ثمن جزء من الحقوق الأصيلة في الأرض والمقدسات وعودة الشعب وقيام الدولة، بجزء آخر من تلك الحقوق نفسها، ولئن قبل بذلك قوم من المسؤولين وغير المسؤولين في مرحلة من الزمن، تحت ضغوط عسكرية أو سياسية، أو لسوى ذلك من الأسباب بغضّ النظر عن كونها مقبولة أو غير مقبولة، فلا ينبغي القبول بأن تتضمّن الخطوات التي يُقدمون عليها هم في هذا الاتجاه، إقامةَ السدود والعراقيل والعقبات في وجه سواهم، من الجيل الحاضر أو جيل مقبل، ممّن لا يكتفي بحمل جزء من الأمانة وجزء من المسؤولية، بل يتأهّل لتحقيق ما عجز سواه عن تحقيقه، ولتحصيل ما لا يموت من الحقوق الأصيلة تحت عناوين زائفة، تعدّدت مشاربها وحصيلتها واحدة، بدءا بالشرعية الدولية، فشتّان شتّان بين مبادئ الشرعية الدولية وما يجري على ساحة فلسطين في الوقت الحاضر، وانتهاءً بما يسمّى بالتطبيع، وليس فيه من أثر لعلاقات طبيعية بين طرفين من قبيل الندّ للندّ.

ونحن لا نقف فيما يجري على صعيد قضية فلسطين على أرضية مبادئ الشرعية الدولية، بل على أرضية تنتهك بالقوّة تلك المبادئ، ولسنا في هذه القضية أطرافا في نزاع، جميعهم أطراف معتبرون بمقاييس الشرعية الدولية، بل يقوم في أرض فلسطين كيان غاصب، قام بقوة الباطل، وتوسّع بقوة الباطل، وما زال يعمل على فرض إرادته وهيمنته بقوة الباطل، ولا يكتسب صفة المشروعية الدولية بمفعول عنصر الزمن وحده، وإن استمرّ أضعاف المدة القصيرة في عمر التاريخ التي مضت على قيامه حتى الآن.

 

أساليب في التضليل

إنّ الأسلوب المتّبع في التركيز على قضية القدس بالذات، تارة بادّعاء أنها سبب رفض تسوية مطروحة كما كان فيما سمّي كامب ديفيد الثانية، وأخرى بتأكيد وضعها في ملفّ مفاوضات مرحلة أخيرة كما قيل منذ بداية مسيرة أوسلو، وثالثة بتصريحات حماسية خالية من المضمون، وغير ذلك من السبل، هو تركيز يثير أشدّ درجات الشكوك فيما يجري البحث فيه ويراد –لولا بلوغ تعنّت الطرف الآخر مبلغه- أن يتمّ اتفاق عليه من وراء ستار أو علنا، فكأنّما المطلوب اصطناع بطولة وطنية وهمية بدعوى الدفاع عن جزء من بيت المقدس، ليمكن تمرير ما يستحقّ وصفه بالنكبة السياسية الكبرى في تاريخ القضية.

لا ينبغي أن تغيب عناصر أخرى من عناصر النكبة عن الأذهان، ووجه النكبة يتمثل أوّل ما يتمثل في القبول بحلول جائرة وإن وصفت بالحل العادل والشامل والشرعي والواقعي وسوى ذلك من الأوصاف المنتحلة:

1- في قضية المشرّدين وقد بات يتردّد بصددها الحديث عن رقم مائة ألف مشرّد من أصل بضعة ملايين.

2- وفي قضية الحدود وقد أصبح أقصى ما يتسرّب عنها بعض الحديث عن ثمانين في المائة من الضفة الغربية -دون القدس- أي أقلّ من 12 في المائة من مساحة فلسطين التاريخية.

3- وفي قضية السيادة وقد غدا كما لو أنّه من الأمور المسلّم بها أن يكون أبناء فلسطين مجرّدين من كلّ سلاح في ظلّ سيادة إسرائيلية لا تتردّد عن صناعة أفتك أنواع الأسلحة واستيرادها واستخدامها.

4- وفي قضية المياه وقد غابت أو غُيّبت عن جداول الأعمال في مختلف أشكال المفاوضات المرحلية والنهائية أو أحيطت بأستار تعتيم مقصود، وكلّ "خرائط الطرق" القديمة والجديدة، وألوان التسويات المطروحة.

هي صفقة خاسرة –ونتجنّب استخدام تعابير أشدّ وأقرب إلى الصحة- أن يكون تسويق مثل تلك الحلول الوسطية الجائرة الباطلة في هذه القضايا "الفرعية" وتكون صياغتها ويكون تنفيذها على حساب الحقّ وأصحابه، ثم تكون التغطية عليها ويكون تمريرها من خلال الحديث عن تحصيل "حل وسطي ما" في قضية القدس، وسط التهليل والضجيج بأنها قضية العرب والمسلمين جميعا، والقضية المركزية الأولى، بينما لا يمكن لذلك الحلّ الوسطي أن يكون بأي صورة قلّبناه عليها، وحتى لو أوصلت براعة المتفاوضين إلى كامل القطاع الشرقي من المدينة المغتصبة، إلاّ مثل تلك الحلول جورا من حيث الأساس وصياغة وتنفيذا على حساب الحق وأصحابه.

أيّ صفقة تلك التي يباع فيها جزء من الحقّ، بالجزء الآخر!..

 

سياسة التفريط المرفوضة

إذا كانت السياسة فنّ الممكن، فليس ما يُصنع في قضية فلسطين في الوقت الحاضر هو الممكن، بمقياس ما نملك من إمكانات هذا الجيل وأجيال مقبلة في أرض فلسطين وما حولها.

وإذا كانت السياسة فنّ التعامل مع الواقع، فلا يجوز أن يكون تعاملنا مع الواقع صادرا عن التسليم بكل واقع جديد يصنعه سوانا وعن الإحجام على أن نصنع واقعنا ومستقبلنا على أرضنا بأنفسنا ووفق ثوابتنا وأهدافنا المشروعة.

وإذا كانت السياسة فنّ التفاوض على حلول وسطية، فلقد بدأت مسيرة التصفية بكاملها على طريق التخلّي عن "مادّة" المفاوضات من قبل الشروع بها، فكان الاعتراف الواقعي والاعتراف الرسمي بالكيان الباطل، وكان تخفيف مقاطعة الدول العربية وتمكين الكيان الباطل من الخروج من عزلته الدولية قبل عام 1990م، وكان فتح الثغرات باسم "التطبيع" أثناء استمرار الممارسات العدوانية الصهيونية في فلسطين ولبنان بأفجر صورة، فانقلب الحديث في المفاوضات منذ ذلك الحين ليدور حول جزء من الحقوق المغتصبة وكأن ما سبقها لا قيمة له، وبات معنى "الحلول الوسطية" هو الحصول على جزء من ذلك الجزء من الحقوق المغتصبة، وهو ما ينعكس الآن في أوضح صوره المخزية في الحديث عن شطر من القدس وشطر من الشعب وشطر من الأرض وشطر من السيادة.

 

قضية فلسطين لا يمكن حشرها بعد مسخها في قالب سياسي محض، ولا تحويلها من قضية مصير محورية في المنطقة الإسلامية بكاملها، إلى قضية حدود هلامية وعقود مع قوم لم يراعوا العقود في الماضي ولا يراعونها في الحاضر.

ولئن تعاملت السياسة وأهلها مع قضية فلسطين بأيّ عذر -ولا نرى لأحد عذرا- تعاملا ينطوي على التفريط بها، وتصوير الحصول على البقية الباقية من حقوق ممسوخة وكأنها تحصيل "الحقوق المشروعة"، وتصوير تحرير جزء من القدس وجزء ممّا حولها وكأنّه هو هدف التحرير الأصيل، فلا يمكن القبول بالتعامل مع قضية فلسطين في ذاكرتنا التاريخية وتطلّعاتنا المستقبلية، وفي حياتنا الفكرية والثقافية ومناهجنا التربيوية وإبداعاتنا الفنية والأدبية، من منطلق التفريط بالقضية، وتحويل فلسطين في القرن الخامس عشر للهجرة إلى مثل ما كان مع الأندلس في أشدّ حقب الانحطاط في التاريخ الإسلامي في أقصى المغرب وأقصى المشرق ما بين المحيطات الثلاث، قبل أن يعوّض العهد العثماني عن ذلك بعض التعويض.

القدس كالأرض المباركة بكاملها، لا تضيع نتيجة سيطرة عسكرية، ولا هيمنة سياسية، ولا تفوّق تقني واقتصادي، وإنّما تضيع عند تحويل قضية فلسطين في أنفسنا وفي حياتنا اليومية إلى مجرّد "مشكلة" أو حتى "معركة" سياسية خاسرة.

 

التسويات والثوابت

يجب من وراء كل حديث سياسي يدور، ومفاوضات سياسية تجري، واتفاقات سياسية تعقد، أن نضع نصب أعيننا أن نتائج ذلك كله، ولو تحقّقت من خلاله كافّة الأهداف المطروحة على طريق التسويات:

1- يتناقض من الجذور، مع حقّنا الديني بفلسطين منذ بناء المسجد الأقصى بعد المسجد الحرام بأربعين عاما، ومنذ سمّانا أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام مسلمين، ووصّى بها بنيه، وسار على نهجه الأنبياء من بعده والصالحون، وحتى يوم الإسراء والمعراج وصلاتهم جميعا وراء خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلّم، وإلى يوم القيامة، شريطة أن نحمل بحقّ شرط الاستخلاف في الأرض إيمانا ودعوة وعدلا.

2- كما يتناقض من الجذور مع حقّنا التاريخي الثابت بفلسطين، من عهد يبوس الذي بنى مدينة يبوس قبل أن يولد موسى عليه السلام بثلاثة آلاف عام، وعبر عهد الكنعانيين الذين ما فارقوا أرض فلسطين على مرّ القرون، حتى يوم الفتح ودخول الفاروق رضي الله عنه إلى القدس، وحتّى يوم التحرير وعفو صلاح الدين عن ملوك الصليبيين، وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، ولا تزول حقائق التاريخ ولا تنمسخ بأمر من الأوامر العسكرية أو شطحة من الشطحات السياسية.

3- ويتناقض من الجذور مع حقّنا الحضاري في الأرض التي لم تعرف ازدهارا حضاريا إلا في ظلّ رسالة التوحيد، ولم تعرف أشدّ من الصهيونيّين فتكا بكلّ صيغة من الصيغ الحضارية والاعتبارات الإنسانية بالأمس البعيد وحتى اليوم.

4- ويتناقض من الجذور مع القانون الدولي وفق نصوص مبادئه الثابتة التي لا تقبل التزوير بقرارات "هيئة تنفيذية" مثل مجلس الأمن الدولي، فقراراته لا تكتسب المشروعية إلا بمقدار ما تتفق مع تلك النصوص، سيّان هل تحكّم في صنع القرار فيه قطب واحد أو عدة أقطاب، فهيمنة القوة لا "تصنع" حقا ولا تبدله بباطل، وإن تمكّنت من غصب الحقوق وتمكين الباطل ردحاً من الزمن.

إنّ بيت المقدس لا يفرض علينا أن نتابع الآن ما الذي يُصنع به على موائد مفاوضات محتملة لا تكافؤ فيها، ولا مشروعية من ورائها، وهل ستستفر تلك المفاوضات عن سيادة شكلية أم فعلية، على هذا الحي أو ذاك، وهذا الموضع أو ذاك من المدينة المغتصبة، وإنّما يفرض علينا العمل على خطّين متوازيين في وقت واحد، خطّ الحفاظ على قضية فلسطين الإسلامية بوضعها الأصيل ومكانتها المشروعة، في أعماق القلوب والعقول، جيلا بعد جيل، وفي كلّ إنتاج فكري وأدبي ينقل أمانة القضية من جيل إلى جيل، وعلى خطّ الإعداد بما أمر الله تعالى به من أسباب القوة بمختلف أشكالها، فما اغتُصب بالقوة لا يُستعاد إلا بالقوة، ولن يُرهب أعداءَ الله وأعداء الإسلام والمسلمين وآخرين من دونهم، إلاّ ما نعدّ من القوة، وآنذاك فقط يمكن أن نصل إلى المستوى الذي يؤهّلنا لنصرٍ من الله يأتي به من حيث لا يحتسب الظالمون، ولا يحتسب المتخاذلون. ((هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأوّل الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنّوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار)).

 

 

المصدر: مداد القلم 

تحليل  سبق نشره في: 3/8/2000

 

ملحوظة: المسجد الأقصى المبارك ليس حرما، ولذا لا تصح تسميته ثالث الحرمين بل هو ثالث المساجد التي تشد إليها الرحال في الاسلام. - الموقع


للحصول على نشرة الأقصى الإلكترونية، يرجى التسجيل في القائمة البريدية للموقع:

alaqsa_newsletter-subscribe@yahoogroups.com  

عودة إلى صفحة النشرة الرئيسية