المرحلة الخامسة: الفتح الإسلامي الأول

المجموعة الأم: المحتوي
نشر بتاريخ الأربعاء, 05 حزيران/يونيو 2013 13:42
الزيارات: 7449

المرحلة الخامسة: الفتح العربي الإسلامي الأول

 

 من 16هـ/637م – 492هـ/1099م

 

نعمت الأرض المباركة، ومسجدها الأقصى المبارك، بالأمن والسلام مجددا مع بعثة النبي الخاتم محمد، صلى الله عليه وسلم، ومع بناء الأمة الإسلامية الجديدة التي تم على يديها فتح البيت المقدس، لتتواصل مسيرة إعماره على مدى ما يقرب من خمسة قرون متصلة غلب فيها نور العدل، فمحا الله به عن هذه الأرض، وعن الأرض كلها، ظلام القرون الطويلة السابقة.

 

 

 

أرسل الله تعالى نبيه ورسوله الخاتم محمدا Prophet Muhammad، صلى الله عليه وسلم، بالهدى ودين الحق، من بني إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام، ومن مكة حيث البيت الأول، المسجد الحرام، إلى الناس كافة، حوالي سنة 610م، فكان هذا إيذانا بانتقال الإمامة من بني إسرائيل، وباستبدال أمة العرب بهم، كحملة لرسالة التوحيد الواحدة الخالدة، وذلك بعد انحراف الغالبية من أتباع الأنبياء السابقين وتحريفهم كتبه تعالى المنزلة فيهم. وجاءت الرسالة الجديدة استجابة لأبي الأنبياء، إبراهيم، عليه السلام، الذي كان قد دعا هو وابنه إسماعيل، عليه السلام، أثناء قيامهما برفع قواعد ذلك البيت، بأن يبعث الله في ذريتهما رسولا يجدد به أمر دعوته، فكان محمدا، صلى الله عليه وسلم.

 

 

جاءت هذه البعثة التي بشر بها أيضا المسيح عيسى بن مريم، عليه السلام، فتحا على البيتين الحرام في مكة، والأقصى في بيت المقدس. فبينما كان مشركو مكة يعبدون الأوثان داخل البيت الحرام، كان بيت المقدس يعاني من ظلم الرومان البيزنطيين الذين اتخذوا جزءا من المسجد الأقصى كنيسة نصرانية تارة، وحولوا جزءا آخر، خاصة الصخرة المشرفة، إلى مكان لجمع المهملات[1] تارة أخرى. وارتبط فساد العقيدة لدى هؤلاء وأولئك باضطهاد ديني وفساد أخلاقي واجتماعي عانت منه شعوب المنطقة كلها، على اختلاف أجناسها ودياناتها. 

رغم انتقال النبوة من بيت إسرائيل، فإن محمدا، صلى الله عليه وسلم، لم يهدم صرح نبوات بني إسرائيل، بل، على النقيض من ذلك تماما، فقد واصل السير على خطى الأنبياء قبله، وأكد أنه اللبنة الأخيرة في صرح النبوات السابقة، واعتبر الإيمان بكل الأنبياء جزءا من الإيمان به، وأوضح أن الكفر بأي نبي من الأنبياء هو كفر بباقي الأنبياء، لأنهم جميعا دعوا إلى عقيدة واحدة هي عقيدة التوحيد. كما أوضح أن رسالته إنما جاءت لبيان مواطن الانحراف التي وقع فيها أتباع تلك الرسالات السابقة، عن هذه العقيدة الواحدة، ولتصحيح هذه الانحرافات، فهي رسالة مصدقة لما سبقها من رسالات، ومهيمنة عليها، في ذات الوقت.

 

 

من هنا، وكما صلى أنبياء بني إسرائيل قبل محمد، عليه الصلاة والسلام، إلى البيت المقدس، صلى هو أيضا إليه لمدة تزيد عن أربعة عشر عاما، هي سنوات الدعوة الـ 13 بمكة، وحتى أمره الله بتحويل القبلة إلى البيت الحرام، بعد  16 أو 17 شهرا من هجرته إلى المدينة.

 

 

وتأكيدا لهذه الارتباطات جميعا، فقد أسرى الله تعالى بعبده ورسوله الخاتم، صلى الله عليه وسلم، من البيت الأول (المسجد الحرام) إلى البيت الثاني (المسجد الأقصى)، في السنة 10 أو 11 للبعثة، على اختلاف في تحديدها، فكانت رحلة تسرية وتثبيت إلى أرض البركة، أرض الأمل، رأى فيها من آيات ربه، وسار على درب النبيين قبله، بل لقد صلى، عليه الصلاة والسلام، بالأنبياء إماما في المسجد الأقصى، قبل أن يعرج منه إلى السماء. وجاءت هذه الرحلة في أعقاب اشتداد أذى مشركي مكة به، صلى الله عليه وسلم، إثر وفاة كل من عمه أبي طالب، وزوجه خديجة، رضي الله عنها، إيذانا بهجرته التي تمت عام 622م تقريبا إلى المدينة المنورة حيث أقام البيت الثالث من بين الأماكن الإسلامية التي لا تشد الرحال إلا إليها.

 

 

 جاء دخوله، صلى الله عليه وسلم، إلى المسجد الأقصى المبارك، في رحلة الإسراء، على الأرجح من الجهة الجنوبية الغربية للمسجد، إذ هي الأقرب لمكة، وتحديدا من باب البراق[3]  الواقع في حائط البراق في الجزء الجنوبي من السور الغربي للأقصى. كما يرجح أن يكون معراجه، صلى الله عليه وسلم، قد تم من الصخرة المشرفة الواقعة في قلب الأقصى، لأنها أعلى نقطة في جبل موريا الذي يقوم عليه المسجد المبارك.

على أي حال، بينما مثلت صلاته، عليه الصلاة والسلام، إلى بيت المقدس، ثم رحلته إليه، تأكيدا على رابطة العقيدة الواحدة التي تربط بينه وبين الأنبياء قبله، وكذلك على عمق الصلة بين كل من المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وبينهما وبين السماء، فقد مثّل تحويل القبلة إلى المسجد الحرام بمكة عام 2هـ، بدوره، تأكيدا لتميز الأمة المسلمة الجديدة، واستقلاليتها، وحرصها على المفاصلة مع أتباع الرسالات السابقة من الذين اتخذوا بيت المقدس قبلة، ولكنهم كفروا بالله، رغم ذلك.

 

 

في هذا الإطار، حفلت سورة البقرة -التي تعد من أوائل ما نزل من القرآن الكريم بعد الهجرة لدى تأسيس الدولة المسلمة الجديدة في المدينة المنورة، ولدى تحويل القبلة- كما حفل القرآن، عموما، بقصص أنبياء بني إسرائيل في الأرض المباركة، وببيان مواطن انحراف أهل الكتاب People of the Book من اليهود والنصارى عن منهج الله تعالى، وصور مخالفتهم لهؤلاء الأنبياء، وذلك حتى يحذر أتباع الرسالة الجديدة من الوقوع في مثل هذه الانحرافات والمخالفات فلا يتعرضوا لغضب الله.

 

 

 وفضلا عن آيات القرآن الكريم، حظي المسجد الأقصى وما حوله بقدر كبير من التشريف والتقدير في أحاديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فهو ثالث المساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها بعد المسجدين الحرام والنبوي، وهو أرض المنشر والمحشر، والصلاة فيه مضاعفة الأجر، والإحرام منه بحجة أو عمرة مغفرة لما تقدم من الذنوب، وأرضه هي مقر الطائفة المنصورة، وعقر دار الإسلام، وعليها تبسط الملائكة أجنحتها، والسكن فيها رباط إلى يوم الدين.

 

 

 تعاضدت السنة النبوية الفعلية مع القولية في تأكيد فضل المسجد الأقصى، وفي ربط قلوب المسلمين به، وبالشام كله. ففي غزوة الأحزاب عام 5هـ/627م، وبينما كان المؤمنون يحفرون خندقا حول المدينة، بعد تحالف مشركي مكة مع أهل الكتاب من يهود المدينة عليهم، بشرهم، صلى الله عليه وسلم، بفتح بلاد الروم وفارس واليمن. وفي شهر المحرم من عام عام 7هـ/628م، وبعد تأمين مكة بصلح الحديبية عام 6هـ، أجلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يهود خيبر Khaybar، الواقعة على الطريق إلى الشام، والذين كانوا قد تجمع إليهم يهود المدينة بعد إجلائهم عنها، وأخذوا يؤلبون القبائل على محاربة الرسول الكريم. وفي نفس السنة، وجّه الرسول الكريم رسائله وسفراءه إلى قيصر الروم وكسرى فارس وإلى غيرهما من الملوك والحكام في الجزيرة العربية وفيما حولها يدعوهم إلى الإيمان بالله تعالى، والتصديق برسالته، وفتح الطريق أمام أقوامهم لاتباعها.

 

رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل
(المصدر: المشروع المعرفي لبيت المقدس – د. عبدالفتاح العويسي)

في المرحلة التالية، بدأ، صلى الله عليه وسلم، بتسيير الغزوات إلى الشام، خاصة بعد قتل أحد رسله إلى ملك بصرى، فكانت غزوة مؤتة Battle of Mu'tah، وهي بلدة تقع قرب مدينة الكرك في جنوب ما يعرف بالمملكة الأردنية الهاشمية حاليا، في جمادى الأولى عام 8هـ/ 629م، والتي أمّر عليها، صلى الله عليه وسلم، ثلاثة من أقرب أصحابه إليه، وهم زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة،. وفيها انسحب خالد بن الوليد Khalid ibn al-Walid، رضي الله عنه، بجيش المسلمين البالغ قوامه 3 آلاف رجل بعد مقتل القادة الثلاثة أمام جحافل الروم التي قدرت بـ100 ألف. وفي مواجهة هذا البلاء، حرص رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على وصف جيش مؤتة بعد عودته إلى المدينة بالكرّار لا الفرار. 

 

في أعقاب فتح مكة في رمضان عام 8هـ، والذي أنهى احتلال المشركين للبيت الأول، البيت الحرام، خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بنفسه في رجب عام 9هـ/630م، في غزوة كبرى إلى تبوك Tabouk الواقعة على مشارف الشام، مصرحا بأنه يريد "الروم"، محتلي البيت الثاني، البيت المقدس. وكان السبب المباشر لهذه الغزوة ورود أنباء حول خروج الروم وحلفائهم من العرب المتنصرة لملاقاة المسلمين. وسميت هذه الغزوة بغزوة العسرة لأنها كانت في أشهر الصيف القائظ في الجزيرة العربية، حيث مر المسلمون، خلال مراحل الإعداد لها والسير فيها، بتمحيص شديد ميّز مؤمنهم من منافقهم، وقويهم من ضعيفهم. ولكنهم بعدما وصلوا إلى تبوك، لم يجدوا حشودا للروم، فمكث رسول الله بضع عشرة ليلة يعقد اتفاقات صلح مع القرى والقبائل العربية المجاورة لتأمين الطريق إلى فتح الشام، وهو يبشّرأصحابه بفتح بيت المقدس خاصة.

 

 

خريطة مواقع الغزوات والسرايا النبوية في الطريق إلى الشام
(المصدر: بيت المقدس والمسجد الأقصى – دراسة تاريخية موثقة – محمد حسن شراب)
(اضغط لتكبير الصورة)

 

قبيل وفاته، صلى الله عليه وسلم، في ربيع الأول عام 11هـ/632م، جهّز بعث أسامة بن زيد Ba'ath Osama ليتوجه إلى الشام، فيمر حيث استشهد أبوه، زيد بن حارثة، في معركة مؤتة، ويغير على الروم وحلفائهم في أَبْنَى أو يُبْنَى[4]. وكرر، صلى الله عليه وسلم، وهو على فراش الموقت توصية أصحابه بإنفاذ هذا البعث. فلما مات، عليه الصلاة والسلام، قبل خروجه، كان هذا هو أول ما قام به خليفته أبوبكر الصديق Caliph Abu Bakr، رضي الله عنه، أول الخلفاء الراشدين. إذ خرج البعث بعد شهر واحد من الوفاة، رغم انشغال المسلمين بها وبأحداث الردة التي شهدتها الجزيرة العربية في ذلك الوقت، وعاد البعث سالما بعد أن أنجز مهمته التي كلفه بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

 

خريطة موقع بلدة المزار والتي يعتقد أن بعث أسامة بن زيد وصل إليها متتبعا سير أبيه الذي استشهد في معركة مؤتة
(المصدر: رسالة ماجيستير بعنوان "الخطوات العملية للرسول صلى الله عليه وسلم باتجاه فتح بيت المقدس"- د. عبدالله معروف)

 

لقد تركت التوجيهات المعنوية والخطوات العملية التي اتخذها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نحو بيت المقدس أثرها في نفوس المسلمين، فأدركوا أهمية المنطقة المباركة، وحفظوا مكانتها باعتبارها ميدان الصراع الأبدي بين الحق والباطل، ووثقوا بالنصر والفتح الذي بشرهم به رسولهم، بل لقد كسروا، بتلك المواجهات المبدئية مع الروم، حاجز التهيب من ملاقاة هذه القوة العظمى. وأقبل المسلمون على الجهاد ضد عدو يفوقهم عدة وعتادا يبتغون وجه الله، ويستعينون به تعالى. لم يكن هدفهم متاع الدنيا، وإنما أرادوا الآخرة، والتزموا في سبيل تحقيق هذا الهدف بأنبل الأخلاق. فكان مسلكهم في هذا الجهاد مثالا يحتذى في الرحمة والإنسانية. وبرزت وصايا قادتهم إليهم، ومنها وصايا أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، بعدم قتل الآمنين غير المحاربين، وعدم استهداف الحرث والنسل، لتكون قبسا من نور في وقت اشتدت فيه حاجة البشرية إلى مثل هذه الرحمة. 

 

بعد انتهاء حروب الردة، بدأ خروج جيوش المسلمين من المدينة المنورة لفتح الشام. ففي رجب 12هـ/633م، عقد أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، الراية لأربعة جيوش بقيادة أربعة من كبار الصحابة، هم: يزيد بن أبي سفيان – إلى البلقاء[5]، وشرحبيل بن حسنة – إلى الأردن[6]، وأبو عبيدة بن الجراح – إلى دمشق، وعمرو بن العاص – إلى فلسطين وإيلياء. وأمرهم إذا اجتمعوا أن يجعلوا القيادة لأبي عبيدة Abu Ubaidah ibn al-Jarrah، أمين الأمة.

 

في أولى معاركهم في الشام، بعد بعث أسامة، وهي معركة عربة Arabah  وداثن، في ذي الحجة 12هـ/634م، هزم المسلمون الروم أولا في بلدة عربة على الحدود بين ما يعرف بالأردن وفلسطين حاليا. وبعد فرار الروم، تبعهم المسلمون ليلحقوا بهم هزيمة ثانية في داثن أو الدثنة قرب غزة. واعتبرت هذه المعركة اختبارا من كلا الطرفين لقوة الآخر، وأسهمت في زعزعة هيبة الروم في نفوس المسلمين. وبعدها، حشد الروم جموعهم التي وصلت إلى مائة ألف جندي، فاستنجد المسلمون بأبي بكر الصديق، رضي الله عنه، فأمدهم بسيف الله المسلول، خالد بن الوليد، رضي الله عنه، الذي انضم إليهم على الأرجح في صفر 13هـ، ليصبح عدد جيوش المسلمين خمسة بلغ تعدادها 35 ألفا.

 

خريطة موقع معركة عربة وداثن أولى معارك المسلمين في الشام
(المصدر: بيت المقدس والمسجد الأقصى – دراسة تاريخية موثقة – محمد حسن شراب)

 

ومن بين المعارك الأخرى الهامة التي خاضها المسلمون ضد الروم على أرض فلسطين تحديدا وكان النصر فيهما للمسلمين أيضا، معركة أجنادين [7] (جمادى الأولى 13هـ/634م)، وكان قائد المسلمين فيها خالد بن الوليد، ومعركة فحل وبيسان Baysan (ذي القعدة 13هـ/634م)، بقيادة أبي عبيدة. وخلال هذه المعركة الأخيرة، حاول الروم التفاوض مع المسلمين لإعطائهم جزءا من الأرض المباركة مقابل رجوعهم عن بقيتها. وثبت المسلمون في المفاوضات كما ثبتوا في ساحات القتال، فلم تثنيهم محاولات الترغيب والترهيب التي اتبعها الروم عن هدفهم ولا عن موعود رسول الله لهم. ومع توالي الانتصارات، ثبتت أقدام المسلمين في الشام، فانطلقوا شمالا وشرقا يفتحون المدن والقرى، حتى وصلوا إلى دمشق ففتحوها في رجب سنة 14هـ/ 635م.

 

خريطة موقع معركة أجنادين
(المصدر: بيت المقدس والمسجد الأقصى – دراسة تاريخية موثقة – محمد حسن شراب) (اضغط لتكبير الصورة)

 

خريطة موقع معركة فحل وبيسان
(المصدر: بيت المقدس والمسجد الأقصى – دراسة تاريخية موثقة – محمد حسن شراب) (اضغط لتكبير الصورة)

إزاء هذه الانتصارات المتوالية للمسلمين، لم يجد قيصر الروم، هرقل Heraclius، والذي كان مع بداية الزحف الإسلامي على الشام قد غادر إيلياء إلى أنطاكية الواقعة في جنوب تركيا حاليا، بدا من حشد الحشود من أنطاكية وما حولها، ومن حلفائه العرب كذلك، لمعركة فاصلة مع المسلمين. واستعد المسلمون بتجميع قواتهم التي كانت قد بسطت سيطرتها على مساحات واسعة في لبنان وسوريا والأردن وفلسطين. فانسحبوا من كثير من المدن في المنطقة بعد أن أعادوا ما اصطلحوا على أخذه من بعضها مقابل حمايتها، واحتشدوا تحت إمرة أبي عبيدة في سهل اليرموك شرقي بحيرة طبرية في شمال فلسطين. واختار أبو عبيدة جعل القيادة الفعلية للجيش في يد خالد، بينما احتفظ بالولاية العامة على الشام، في تبادل سلس للقيادة لتقديم القدرات الأنسب في المواقف الأنسب.



ومرة أخرى، طلب الروم التفاوض وعرضوا قدرا من المال على المسلمين مقابل رجوعهم، وأيضا لم يقبل المسلمون إلا إحدى ثلاث: الجزية أو الاسلام أو القتال. والتقى الفريقان في اليرموك Battle of Yarmouk في رجب 15هـ/ 636م على الأرجح، وكان قوام جيش الروم نحو 200 ألف جندي بينما بلغ جيش المسلمين نحو 36 ألفا. ثبت المسلمون، بقيادة خالد، رغم قلة عددهم وعتادهم، وشاركت النساء في هذه المعركة بفعالية، فلحقت الهزيمة المنكرة بالروم، لتتحقق بذلك بشرى الصادق الأمين الذي كان قد وصف جيش مؤتة بالكرّار لا الفرّار. وقتل من الروم العدد الكثير، بينما استشهد من المسلمين 3 آلاف. وإثر هذه المعركة الفاصلة في التاريخ، لم تعد للروم قائمة في الشام، بينما انطلق المسلمون يستعيدون السيطرة على مدنها في وقت انتقلت فيه الخلافة بعد وفاة أبي بكر إلى عمر بن الخطاب Caliph Omar ibn Al-Khattab، رضي الله عنهما.



اتجه عمرو بن العاص، بجيشه، إلى فلسطين، فأكمل فتح مدنها بحيث لم يتبق أمامه إلا إيلياء (القدس)، بأسوارها المنيعة، وقيسارية. فحاصر إيلياء، وانضم إليه أبو عبيدة ليرتفع عدد المسلمين الذين حاصروا المدينة إلى 35 ألفا. وبعث أبو عبيدة إلى أهل المدينة رسالة ملؤها العز يعرض عليهم فيها الصلح. ولكنهم رفضوا، واستمر الحصار أربعة أشهر، تخللها قتال عنيف. وعانى العرب المسلمون خلال هذه الأشهر كثيرا خاصة بسبب برد الشتاء الذي لم يعتادوا عليه في جزيرتهم، ولكنهم صمدوا وهم يدركون أنهم على أبواب البيت المقدس الذي عمرته الملائكة، وبنته الأنبياء، وأسري إليه برسولهم محمد، صلى الله عليه وسلم. وبعدما حل الضنك والتعب بأهل المدينة، وافقوا على الصلح على أن يتم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بنفسه.

 

خرج عمر رضي الله عنه إلى بيت المقدس، فصالح أهلها على الجزية، وتعهد بحفظ حقوقهم الدينية والمدنية، فيما عرف بالعهدة العمرية Omar's Assurance of Safety، إيذانا بعهد جديد من التسامح الديني عرفته المدينة، والأرض المباركة كلها، بعد قرون طويلة من الظلم تحت حكم الرومان. وكان قدومه رضي الله عنه إلى المدينة من الجهة الجنوبية، حيث يوجد جبل المكبّر Jabal Mukaber [8] والذي علت فوقه أصوات المسلمين بالتكبير لدى وصوله. وفي ربيع الآخر 16هـ/مايو 637م على الأرجح، دخل عمر، رضي الله عنه، بيت المقدس، كما دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مكة، صلحا لا فتحا. ومعه عاد الأمن والسلام إليها للمرة الأولى منذ عهد النبيين الملكين داود وسليمان عليهما السلام. وكان دخوله رضي الله عنه إما من باب الخليل غربي المدينة، حيث توجد إلى اليوم ساحة تحمل اسمه باللغات الثلاث العربية والعبرية والإنجليزية، أو من باب العمود الشمالي.

 

(المصدر: دورة علوم الأقصى الأولى على الإنترنت –د.عبدالله معروف)

 

وأثر عن عمر، رضي الله عنه، العدل في معاملة الناس جميعا، ومن ضمنهم أهل الذمة، على ما تعلمه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعلى ما كانت عليه سيرة المسلمين المتمسكين بدينهم. ومن ذلك أنه عندما كان في ضيافة البطريرك صفرونيوس Patriarch Sophronius في كنيسة القيامة، وحضرته الصلاة، قال له البطريرك مكانك صل، ولكنه رفض، وخرج من الكنيسة، فصلى على مقربة منها في موضع يعتقد أنه الموضع الذي يقوم عليه اليوم مسجد عمر بن الخطاب Mosque of Omar (ويعرف أيضا باسم المسجد العمري) بالبلدة القديمة، ليحفظ للكنيسة حرمتها المستقبلية لدى المسلمين.

 

مسجد عمر بن الخطاب الملاصق لجدار كنيسة القيامة

 

وسأل عمر، رضي الله عنه، عن موضع المسجد الأقصى المبارك، فدلوه على الصخرة، والتي كان النصارى قد حوّلوا المكان حولها إلى مكب للنفايات. فبدأ بإزالة الأوساخ بثوبه من المكان الطاهر، وشاركه المسلمون، ثم أمر ألا يقربها أحد إلا بعد أن تصيبها السماء ثلاث مرات. واستشار عمر من معه في مكان إقامة المصلى الرئيسي داخل المسجد الأقصى الفسيح. فأشار عليه كعب الأحبار ببنائه خلف الصخرة حتى تجتمع قبلتا موسى ومحمد، عليهما السلام. فرفض عمر، وقال: "خالطتك اليهودية، بل أبنيه في صدر المسجد". فبنى مصلى من الخشب يتسع لألف مصلٍ في الموضع الذي يقوم عليه اليوم المصلى القبلي أقصى جنوب المسجد الأقصى، أو في موضع قريب منه يعرف حاليا بمصلى عمر إلى الشرق من المصلى القبلي داخل حدود المسجد الأقصى المبارك أيضا. وهنا، في الأقصى، أذن بلال بن رباح، رضي الله عنه، مؤذن الرسول، صلى الله عليه وسلم، لأول مرة منذ وفاة الرسول، إجلالا لهذا الفتح العظيم.

 

مصلى عمر داخل المسجد الأقصى المبارك ويلاصق المصلى القبلي في الأقصى من الجهة الشرقية
(المصدر: دليل أولى القبلتين)

 

وقبل عودة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الرجل الذي جعل الله الحق على لسانه، إلى المدينة، جمع جند المسلمين، وألقى خطبة بليغة، حذر فيها من ارتكاب المعاصي باعتبارها الطريق إلى تضييع القدس.

 

تتابعت فتوحات المسلمين في الشام في العهد الراشدي وحتى قيام الدولة الأموية، ففتح معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية، Muawiyah، رضي الله عنه، والذي كان أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، قد أرسله مددا لجيوش الشام، قيسارية، والتي يعتقد أن الروم أرادوا الاحتفاظ بها كموطئ قدم لهم في الشام، بعد طردهم منها، وكان هذا الفتح في عام 19هـ. كما أتم عمرو بن العاص، رضي الله عنه، فتح مصر عام 20هـ. وعين عمر معاوية واليا على الشام وبيت المقدس جميعا، لكفاءته الحربية ومهارته في السياسة والإدارة، وهو ما أقره عليه أيضا عثمان بن عفان، ثالث الخلفاء الراشدين. وبعد استشهاد رابعهم، علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، في رمضان عام 40هـ، بويع لمعاوية بالخلافة في المسجد الأقصى المبارك، واتخذ دمشق عاصمة له. وبتنازل الحسن بن علي لمعاوية عن الخلافة رسميا، قامت الدولة الأموية في ربيع الأول عام 41هـ/661م، والتي اتسعت فيها حركة الفتوحات الإسلامية شرقا وغربا.

 

اتساع الدولة الإسلامية في العهد النبوي، فالراشدي، فالأموي
(المصدر: موقع ويكيبيديا) 

 

 رغم انتقال عاصمة الخلافة العربية الإسلامية من منطقة الحجاز إلى منطقة بيت المقدس، لم يغلب العرب المسلمون أهل القدس على مدينتهم، سواء منهم من كانوا من غير جنسهم، أو على غير دينهم، فهم لم يسعوا إلى إقصاء الآخرين عنها، بل تميزوا بالقدرة على الاستيعاب، والعدل مع الجميع، فليس لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود فضل إلا بالتقوى.

 

 

ونتيجة لذلك، احتفظت القدس بطابعها النصراني لفترة طويلة بعد الفتح، إذ حرص الفاتحون على عدم المس بمقدسات النصارى (الذين كانوا يمثلون غالبية سكان القدس يوم فتحها) أو بممتلكاتهم. ويذكر بعض المؤرخين أن بيت المقدس ظلت مسيحية تماما، حتى الفتح الثاني [9] (على يد القائد صلاح الدين بعد أن اغتصبها الصليبيون). بل ويذكر البعض أن 45.3 % من مساحة البلدة القديمة المسورة بالقدس حاليا هي أوقاف مسيحية وكنائس وأملاك مسيحيين، بينما تشكل الأوقاف الإسلامية 43.7% من مساحة البلدة.

 

وفي الوقت نفسه، جدّ أصحاب محمد، صلى الله عليه وسلم، في إعمار الأرض المباركة، ونشر العلم فيها، لبركتها وفضلها. فوفد إليها عدد كبير من القضاة والعلماء والزهاد، والذين روي عنهم فيها الأقوال الكثيرة التي بينت مزيد فضلها. وممن استوطن بيت المقدس من الصحابة: عبادة بن الصامت، وهو أول من ولي قضاء القدس، وشداد بن أوس، الذي اشتهر بالعلم والحلم، وقبراهما معروفان في مقبرة الرحمة الملاصقة للسور الشرقي للمسجد الأقصى المبارك. وممن زارها منهم أيضا، معاذ بن جبل الذي استخلفه أبو عبيدة على الناس عندما حضرته الوفاة، وأم المؤمنين صفية بنت حيي. وممن أقام بها من التابعين: مالك بن دينار، ورجاء بن حيوة الكندي من أهل فلسطين، والذي كان أمين بيت مال الخليفة عبد الملك بن مروان.

 

القدس القديمة في العهد الأموي
(المصدر: دورة علوم الأقصى الأولى على الإنترنت –د.عبدالله معروف) (اضغط لتكبير الصورة)

وفي خلافة معاوية، رضي الله عنه، مؤسس الدولة الأموية، التي تعتبر الدولة الإسلامية الأقوى والأكثر اتساعا وغنى على الإطلاق، جُدد بناء عمر داخل المسجد الأقصى المبارك، فجعل من الحجر بدلا من الخشب، ووسّع ليسع 3 آلاف مصلٍ. كما صك أول نقد في العهد الإسلامي حمل اسمي "فلسطين" و"إيلياء" على وجه، وعبارة "محمد رسول الله" على وجهه الآخر.

 

عملة إسلامية منذ عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وقد ضرب على وجهها "محمد رسول الله" والآخر 
"فلسطين" و"إيليا" اسم المدينة

(المصدر: دليل أولى القبلتين)

 

غير أن أوسع حركة تعمير للمسرى المبارك تمت في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان Abd al-Malik ibn Marwan الذي امتد قرابة عشرين عاما من عام 65هـ/685م إلى عام 86هـ/705م. وتواصلت هذه الحركة في عهد ابنه الوليد بن عبد الملك الذي حكم عشر سنوات من عام 86هـ/705م إلى عام 96هـ/715م، بعد أن بلغت الدولة الإسلامية في عهدهما أوج عزها، كما شهدت بلدانها نهضة حضارية إدارية شاملة. 

بدأ البناء الأموي الجليل للمسجد الأقصى المبارك ببناء قبة الصخرة وهي عبارة عن قبة ذهبية فوق الصخرة المشرفة الواقعة في قلب الأقصى (في منتصف المسجد أقرب إلى الغرب قليلا)، والتي تمثل أعلى نقطة في جبل البيت المقدس، ويعتقد أن معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السماء تم منها، لتكون قبة للمسجد المبارك كاملا. وقبل الشروع ببنائها، أقيمت بجانبها قبة صغيرة في منتصف المسجد الأقصى تماما، عرفت بقبة السلسلة، لتكون مقرا للمشرفين على البناء العظيم للأقصى، وخزانة لجمع الأموال اللازمة لذلك، وقيل لتكون نموذجا لقبة الصخرة. وتكلف بناء القبة الرئيسية في الأٌقصى، خراج مصر لمدة سبع سنين، فجاءت آية في الجمال والعظمة، وغدت أعظم أثر معماري للحضارة الإسلامية على مر العصور.

 

مقطع عرضي لقبة الصخرة – القبة الرئيسية في الأقصى
(المصدر: دورة علوم الأقصى الأولى على الإنترنت –د.عبدالله معروف)

 

وبعد ذلك، بدأ بناء المصلى الرئيسي في المسجد الأقصى المبارك، وهو المصلى القبلي (نسبة إلى قبلة المسجد في جنوبه)، وذلك في مكان بناء عمر. فأقيمت في البداية تسوية لصخرة بيت المقدس (هضبة موريا) المنحدرة ناحية الجنوب، وذلك حتى يتسنى بناء المصلى على أرض مستوية. وفوق الجزء الأوسط من هذه التسوية، بني المصلى القبلي، ذي القبة الرمادية حاليا. وكان هذا المصلى في الأساس يضم 15 رواقا، وليس سبعة فقط كما هو الحال اليوم.

 

 

صورة المصلى القبلي الرئيسي في الأقصى لدى بنائه في العهد الأموي حيث كان يتكون من 15 رواقا
(المصدر: دورة علوم الأقصى الأولى على الإنترنت –د.عبدالله معروف)

 

كما شمل البناء الأموي للمسجد الأقصى المبارك، استخدام جزء من التسوية الجنوبية المقامة تحت المصلى القبلي مباشرة كممر للوصول إليه من الباب المزدوج الواقع في السور الجنوبي للأقصى والذي كان يقود إلى القصور الأموية خارج المسجد. ولكن هذا الممر أهمل بعد إغلاق هذا الباب في العهد الأيوبي، ثم افتتح للصلاة مؤخرا فعرف بمصلى الأقصى القديم.

 

مصلى الأقصى القديم وهو جزء من التسوية الجنوبية للأقصى، وكان في البداية ممرا يستخدمه من يريد الدخول للأقصى من القصور الأموية المقامة خارج سوره الجنوبي عبر الباب المزدوج. 
(المصدر: دورة علوم الأقصى الأولى على الإنترنت –د.عبدالله معروف)

 

أما باقي التسوية الجنوبية للأقصى، فقد استخدم جزء منها كآبار للمياه، واستخدم الجزء الملاصق لحائط البراق في السور الغربي للأقصى لإقامة مصلى عرف بمصلى البراق. أما الجزء الأكبر من التسوية الجنوبية في جهة الشرق، فاستخدم مخزنا ومستودعا للأدوات المستخدمة في البناء، ثم افتتح للصلاة مؤخرا، وأطلق عليه المصلى المرواني . كما اهتم الأمويون ببناء عدد من أبواب الأقصى من بينها باب الرحمة في السور الشرقي للمسجد، ليكتمل بناء المسجد الأقصى المبارك بشكل أقرب ما يكون للشكل الذي هو عليه حاليا.

وعني خلفاء بني أمية بعد الوليد بالمسجد الأقصى المبارك، حيث بنوا قصورا عظيمة لهم تلاصق سوره الجنوبي تماما، عرفت بالقصور الأموية، ولا تزال بعض أطلالها قائمة حتى اليوم. وأثر عن سليمان بن عبد الملك، والذي تولى الخلافة بعد الوليد، أنه كان يحب الجلوس تحت قبة السلسلة وحوله الدواوين والأموال يوزعها على المستحقين.

مخطط تخيلي للمسجد الأقصى والقصور الأموية في العصر الأموي 
(المصدر: دورة علوم الأقصى للدكتور عبدالله معروف)

 

 

رسم يوضح ما كانت عليه القصور الأموية الواقعة خارج سور الأقصى الجنوبي
(المصدر: دورة علوم الأقصى للدكتور عبدالله معروف)

 

على أن حركة البناء العظيمة هذه، والتي مثلت بلوغ الدولة الأموية ذروة مجدها، لم تشفع لها أمام سنة الانحدار التي تلحق بالدول بعد تفشي الظلم فيها. فقد شهد العصر الأموي وقوع كثير من المظالم بحق الموالي من غير العرب، بل وبحق بعض العرب، خاصة في عهد مروان بن الحكم، ثم ابنه عبد الملك، ثم حفيده الوليد. وقد حرص على رد هذه المظالم وعلى إحقاقها الخليفة عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، والملقب بخامس الخلفاء الراشدين، إلا أنها عادت واستمرت بعد انتهاء ولايته، مما كان له أثر في انتقال دولة الخلافة إلى العباسيين Abbasids في بغداد سنة 132هـ/750م.

 

كما كان لهذه المظالم تأثيرها على حركة التأريخ الإسلامي، فقد استخدمها أعداء الإسلام في السابق واللاحق لمحاولة الطعن في الدولة الأموية والنيل من إنجازاتها خاصة في مجال نشر الدعوة. مثال ذلك ما ذكره المؤرخ العباسي اليعقوبي من أن اهتمام عبد الملك ببناء المسجد الأقصى على هذا النحو العظيم كان بهدف صرف الناس عن الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير الذي كان قد أخذ لنفسه البيعة بالخلافة في مكة المكرمة بعد وفاة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان سنة 64هـ. ولكن هذا القول مردود لأن عبد الملك عرف بحبه للتشييد والتعمير بهدف إظهار عظمة الدولة الإسلامية الفتية، وشملت إنجازاته بناء المسجد الأموي بدمشق، وتعمير المسجد الحرام بمكة، بعد القضاء على حركة الزبير، كذلك عني ابنه الوليد بتوسيع المسجد النبوي.

 

واستمرت مسيرة إعمار الأقصى مع استمرار الإمامة بيد المسلمين، واستمرارهم على العهد مع الله تعالى. حيث حرصت الدولة العباسية، خليفة الدولة الأموية، على إيلاء المسجد الأقصى كل عناية. وبينما تميز العصر الأموي بعمارة الأقصى بنيانا، تميز العصر العباسي بعمارته بالعلماء وأهل الفضل. فبعد الفتوحات العظيمة التي قام بها الأمويون، شهدت الحضارة الإسلامية عصرها الذهبي ثقافيا وعلميا في العهد العباسي، بفضل امتزاجها بالحضارات الأخرى. واقتبس المسلمون من هذه الحضارات ما لا يتعارض مع دينهم الذي يأمرهم بالسعي وراء العلم ولو في الصين، وبالتفكر في الكون وعمارة الأرض. وانتعشت حركة الترجمة، وحركة التأليف في مختلف العلوم والفنون. ووفد إلى بيت المقدس الكثير من العلماء، منهم الشافعي، كما تعددت حلقات العلم في المسجد الأقصى المبارك.

 

 وقام العباسيون بترميم بعض معالم المسجد الأقصى المبارك وتجديدها إثر زلازل عديدة ضربت المنطقة. فبعد زلزال ضرب القدس سنة 130هـ/ 747م في أواخر العصر الأموي، وبعد مخاض عسير لدولتهم في عهد خليفتها الأول الذي عرف بالسفاح، أمر الخليفة العباسي الثاني، أبو جعفر المنصور، بترميم المصلى القبلي والذي كان الأكثر تأثرا بالزلزال (نظرا لبنائه فوق تسوية بشرية، وليس فوق الصخر الطبيعي للأقصى)، كما هو الحال مع قبة الصخرة، وذلك مع بداية حكمه سنة 136هـ/ 754م. ويذكر في هذا الصدد أن المنصور لم يجد في خزائن الدولة ما يكفي لإعمار المصلى، فأمر بضرب دنانير من صفائح الذهب والفضة التي كانت تكسو الأبواب لجمع الأموال اللازمة. وبعد انتهاء هذا الترميم، حدث زلزال آخر عام 158هـ /774م ألحق ضررا بالغا بالمصلى، فجدد محمد المهدي بن المنصور عمارته ثانية، بدعم من عماله في مختلف أنحاء الدولة، وذلك في سنة 163هـ /780م.

 

 وفي عهد الخليفة المأمون بن هارون الرشيد، جرت أعمال تجديد لقبة الصخرة، وصك، بهذه المناسبة، أول نقد حمل اسم القدس سنة 217هـ/832م. كما شهد العصر العباسي إقامة بعض البوائك التي تحف بصحن قبة الصخرة وترتفع فوق الدرجات التي تقود للصحن، ومنها البائكتان الشرقية، والجنوبية، وبنيتا في القرن الرابع الهجري، والغربية وبنيت في عام 340هـ تحديدا.

 

وبداية من عهد المعتصم بالله بن الرشيد عام 218هـ، بدأت أوضاع الدولة العباسية في التدهور، وضعفت سيطرة الخلفاء في العاصمة بغداد على أطراف الدولة، فيما تعززت سلطة الوزراء وقادة الجيوش وكان معظمهم من الموالي. وظهرت المظالم مجددا ولكن هذه المرة بحق العرب، فقطع عنهم العطاء. وكان انتشار الملاهي والمعازف وشرب الخمر، إلى جانب المظالم، وتعدد الصراعات الداخلية وظهور الفرق المنحرفة عقديا أهم أسباب تفكك بنيان الدولة العباسية، وخضوعها لنفوذ الأتراك، ثم البويهيين، ثم السلاجقة، فيما عرف بالعصر العباسي الثاني (امتد من سنة 232هـ/847م، وحتى سقوط بغداد بيد المغول سنة 656هـ/1258م). وأدى هذا إلى استقلال بعض أقاليم الدولة تحت حكم دويلات خضعت اسميا فقط لبغداد، ومنها الدولة الطولونية، وخليفتها الدولة الإخشيدية في مصر والشام.

 

 إلا أن الانقسام الأعمق في العالم الإسلامي تمثل في إعلان الفاطميين العبيديين، وهم شيعة مغالون زعم بعضهم التأله، عن قيام خلافة مستقلة تماما عن الخلافة العباسية عرفت بالخلافة الفاطمية Fatimid Caliphate في المغرب ثم في مصر. ودخل الفاطميون، الذين عرفوا كذلك في ذلك الوقت بالعلويين، في حروب مع الحكام الموالين للخلافة العباسية في الشام، خاصة من الأتراك السلاجقة، سعيا للسيطرة عليه أيضا. وهو ما حدث لفترات، مما كان له أثره في ضعف العالم الإسلامي، والتمهيد، كما سنرى في المرحلة التالية من تاريخ بيت المقدس، للتغلغل الصليبي في موضع القلب من هذا العالم.

 

 وعلى الرغم من هذه الانقسامات وإرهاصات التدهور في الأمة المسلمة، كانت للحكام في هذه الفترة أياد بيضاء في القدس، فقد شغف الاخشيديون Ikhshidids  ببيت المقدس، وحرص حكامهم على أن يدفنوا بجوار مسجده المبارك، فأقاموا التربة الاخشيدية خارج باب الأسباط في الزاوية الشمالية الشرقية من المسجد الأقصى.

 

وترك الفاطميون أيضا آثارا في المسجد الأقصى المبارك، حيث عمروا المصلى القبلي إثر زلزال وقع سنة 425هـ. ومما يؤثر عن هذا التعمير الذي تم سنة 426هـ، في عهد الظاهر لإعزاز دين الله، أنه اختصر أروقة المصلى الخمسة عشر الأصلية إلى سبعة فقط، كما هو عليه الآن، للحد من تأثره بالزلازل. كما أقام هؤلاء العبيديون ما يعرف بمهد عيسى في الزاوية الجنوبية الشرقية من المسجد الأقصى المبارك، ملاصقا للمصلى المرواني، واتخذوه مصلى، وبنوا البائكة الجنوبية الشرقية سنة 412هـ.

 

وهكذا استمرت مسيرة إعمار بيت المقدس في العصر الإسلامي زهاء خمسة قرون لم تزحزح فيها الأمة المسلمة عن موقع الصدارة والإمامة، رغم تعاقب دولها، إلا بعد أن انفرط عقدها وظهرت الاختلالات العقدية فيها بعد ذلك. وبالرغم من أن القرن الثاني كان قد شهد بداية انتقاض عرى الإسلام، عروة عروة، كما أخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأولاها الحكم الذي أصبح وراثيا في مجمله منذ العصر الأموي، إلا أن تماسك عقيدة الأمة، بمجموعها، بفضل حرص علمائها على الالتزام بأصولها من القرآن والسنة، حماها وحمى بيت المقدس من الوقوع في براثن المتربصين طوال تلك الفترة الممتدة وإلى حين.

 

 

 

للاستزادة:

 

مظاهر عدل أرساها المسلمون في بيت المقدس عند الفتح الأول (بحث)

 

 

 


[1]  يقول باحثون إن اتخاذ الصخرة مكانا للقمامة جاء نكاية في اليهود الذين كانوا قد اتخذوا موضع الصلب المزعوم للمسيح عيسى بن مريم، عليه السلام، مكانا لإلقاء القاذورات، قبل أن يتم بناء كنيسة القيامة فوقه عام 335م.

[2] ورد في شرح النووي على مسلم: فكذا هو في الأصول (به) بضمير المذكر أعاده على معنى الحلقة وهو الشيء قال صاحب التحرير: المراد حلقة باب مسجد بيت المقدس.

[3] يسمى هذا الباب أيضا باب النبي، ويقع حاليا أسفل باب المغاربة الواقع جنوبي السور الغربي للمسجد الأقصى المبارك. وهذا الباب يفضي إلى مصلى البراق، وهو جزء من التسوية الجنوبية التي أقامها الأمويون للأقصى. وداخل هذا المصلى توجد حلقة عثمانية وضعت في الموضع الذي يعتقد أنه صلى الله عليه وسلم ربط فيه دابته البراق. أما الحائط فقد احتله الصهاينة وحولوه إلى مزار يهودي باسم "المبكى" كجزء من مخططاتهم للسيطرة على المسجد الأقصى المبارك.

[4]  يرى باحثون أن بلدة أبنى أو يبنى هي نفسها بلدة المزار الواقعة جنوبي الكرك فيما يعرف بالمملكة الأردنية الهاشمية حاليا والتي توجد بها قبور قادة مؤتة الثلاثة الشهداء، ولكن آخرين يرون أنها تقع ضمن أرض فلسطين.

[5] تزخر كتب التراث بذكر "البلقاء" ومدنها وقراها وأوديتها وجبالها، واختلف الجغرافيون العرب في تحديد حدودها، ويعتقد بعضهم أنها تتسع لتشمل جميع ما يسمّى الآن بالمملكة الأردنية الهاشمية، شرقيَّ نهر الأردن، من جنوبي دمشق إلى أيلة على بحر القلزم (البحر الأحمر)، ويرجح أن يكون من ضمنها "عمَّان" التي وصفها بعض الجغرافيين بأنها "قصبة البلقاء".

[6]  يقصد بالأردن هنا على الأرجح الجزء الشمالي مما يسمّى الآن بالمملكة الأردنية الهاشمية، وهي المنطقة الممتدة بمحاذاة لنهر الأردن الذي يفصلها عن فلسطين التاريخية حتى مصبه في البحر الميت.

[7] أجنادين هي موضع يبعد عن "بيت جبرين" بحوالي 11كم، وعن الرملة حوالي 39كم.

[8] يقع جبل المكبر بين بلدتي سلوان وأبي ثور شمالا، وبلدة صور باهر جنوبا، في القطاع الشرقي من القدس والمحتل منذ عام 1967م.

[9] بعد الفتح الصلاحي، تم بناء أول حي للمسلمين في القدس هو حي المغاربة في جوار المسجد الأقصى المبارك، وبناء حي آخر لليهود.