config

القائمة البريدية

استطلاع الرأي

أين يقع المنبر والمحراب الرئيسين في المسجد الأقصى؟

داخل قبة الصخرة الواقعة في منتصف ساحات المسجد - 25%
داخل المصلى الجنوبي القبلي - 75%

التحويل بين التقويم الهجري والميلادي

التاريخ الميلادي
التاريخ الهجري
اليوم الموافق :

اليوم الشمسى:

رسالة

قصة الأقصى

أول خطبة بعد الفتح الصلاحي

( ذكر أول خطبة بعد الفتح )*
 

ولما فتح السلطان القدس تطاول إلى الخطابة يوم الجمعة كل واحد من العلماء الذين كانوا في خدمته حاضرين، وجهز كل واحد منهم خطبة بليغة طمعاً في أن يكون هو الذي يعين لذلك، والسلطان لا يعين الخطبة لأحد.

 فلما دخل يوم الجمعة رابع شعبان واجتمع الناس لصلاة الجمعة حتى امتلأ الجامع، ونصبت الأعلام على المنبر، وتكلم الناس فيمن يخطب والأمر مبهم حتى حان الزوال، وأذن المؤذن للجمعة، فرسم السلطان وهو بقبة الصخرة للقاضي محيي الدين محمد بن زكي الدين علي القرشي أن يخطب، وهي أول جمعة صليت بالمسجد الأقصى الشريف بعد الفتح، وأعاره العماد الكاتب أهبة سوداء كانت عنده من تشريف الخلافة لبسها في الحال.

فلما رقى عل المنبر استفتح بسورة الفاتحة فقرأها إلى آخرها ثم قال: ( فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ).

ثم قرأ أول سورة الأنعام ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ).

 ثم قرأ من سورة سبحان: ( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً )

ثم قرأ من سورة الكهف - أولها - ( الحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيما لينذر بأساً شديداً من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً ماكثين فيه أبداً وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً )

ثم قرأ من سورة النمل: ( قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى الله خير مما يشركون )

ثم قرأ من سورة سبأ: ( الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير )

ثم قرأ من سورة فاطر: ( الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم )

ثم شرع في الخطبة فقال: الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الكفر بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكفار بمكره الذي قدر الأيام دولا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاء على عباده من ظله، وأظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع، أحمده على إظفاره وإظهاره وإعزازه لأوليائه ونصره لأنصاره، وتطهيره لبيته المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه وأرضى به ربه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله رافع الشك، وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أسرى به ليلاً من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السماوات العلى (عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى) صلى الله عليه وسلم، وعلى خليفته أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، أول من رفع عن هذا البيت شعائر الصلبان وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، مزلزل الشرك ومكسر الأوثان، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.

أيها الناس: أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا، لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة، وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريباً من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه، وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه، واستقر فيها رسمه ورفع قواعده بالتوحيد فإنه بني عليه، وشيد بنيانه بالتمجيد فإنه أسس على التقوى من خلفه، ومن بين يديه، فهو موطن أبيكم إبراهيم، ومعراج نبيكم، عليه السلام، وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام وهو مقر الأنبياء، ومقصد الأولياء، ومدفن الرسل، ومهبط الوحي، ومنزل ينزل به الأمر والنهي، وهو أرض المحشر، وصعيد المنشر، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين، وهو المسجد الأقصى الذي صلى فيه رسول الله، عليه السلام، بالملائكة المقربين، وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروحه عيسى الذي أكرمه برسالته وشرفه بنبوته، ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته، فقال تعالى (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون) كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيداً: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون) (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن الأرض جميعاً ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير).

وهو أول القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، فلولا أنكم ممن اختاره الله من عباده واصطفاكم من سكان بلاده، لما خصكم الله بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار، ولا يباريكم في شرفها مبار، فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية، والوقعات البدرية، والعزمات الصديقية، والفتوحات العمرية، والجيوش العثمانية، والفتكات العلوية، جددتم للإسلام أيام القادسية والملاحم اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبل منكم ما تقربتم به إليه من مهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء، فاقدروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله قانتين بواجب شكرها، فله تعالى المنة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة، وترشيحكم لهذه الخدمة، فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء، وتبلجت بأنوار وجوده الظلماء، وابتهج به الملائكة المقربون، وقر به عيون الأنبياء والمرسلون، فماذا عليكم من النعمة أن جعلكم الجيش الذي يفتح على يديه البيت المقدس في آخر الزمان والجند الذي تقوم بسيوفهم التهاني بعد فترة من النبوة أعلام الإيمان، فيوشك أن يفتح الله على أيديكم أمثاله، وأن يكون التهاني لأهل الخضراء أكثر من التهاني لأهل الغبراء، أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه ونص عليه في محكم خطابه، فقال تعالى ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ) أليس هو البيت الذي عظمته الملل وأثنت عليه الرسل، وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من الله عز وجل؟ أليس هو البيت الذي أمسك الله تعالى لأجله الشمس على يوشع أن تغرب وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويقرب؟ أليس هو البيت الذي أمر الله عز وجل موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلا رجلان، وغضب الله عليهم لأجله، فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان؟ فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عليه بنو إسرائيل وقد فضلت على العالمين، ووفقكم لما خذلت فيه أمم كانت قبلكم من الأمم الماضين، وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى، وأغناكم بما أمضته كان وقد عن سوف حتى فليهنكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده، وجعلكم بعد أن كنتم جنوداً لأهويتكم جنده وشكر لكم الملائكة المنزلون على ما أهديتم لهذا البيت من طيب التوحيد، ونشر التقديس والتمجيد، وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك والثليث، والاعتقاد الفاجر الخبيث، فالآن تستغفر لكم أملاك السماوات، وتصلي عليكم الصلوات المباركات، فاحفظوا رحمكم الله هذه الموهبة فيكم، واحرسوا هذه النعمة عندكم بتقوى الله التي من تمسك بها سلم، ومن اعتصم بعروتها نجا وعصم، واحذروا من أتباع الهوى، ومواقعة الردى، ورجوع القهقري، والنكول عن العدى، وخذوا في انتهاز الفرصة، وإزالة ما بقي من الغصة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وبيعوا عباد الله أنفسكم في رضاه، إذ جعلكم من خيار عباده، وإياكم أن يستزلكم الشيطان، وأن يتداخلكم الطغيان فيخبل لكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد، وخيولكم الجياد، وبجلادكم في مواطن الجلاد، لا والله ما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم، فاحذروا عباد الله بعد أن شرفكم الله بهذا الفتح الجليل والمنح الجزيل، وخصكم بنصره المبين، وأعلق أيديكم بحبله المتين، أن تقترفوا كبيراً من مناهيه، وأن تأتوا عظيماً من معاصيه (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً) و كـ (الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين )، والجهاد الجهاد فهو من أفضل عباداتكم، وأشرف عاداتكم، انصروا الله ينصركم، احفظوا الله يحفظكم، اذكروا الله يذكركم، اشكروا الله يزدكم ويشكركم، جدوا في حسم الداء، وقطع شأفة الأعداء، وطهروا بقية الأرض من هذه الأنجاس التي أغضبت الله ورسوله واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله، فقد نادت الأيام بالثارات الإسلامية، والملة المحمدية، الله أكبر فتح الله ونصر، غلب الله وقهر، أذل الله من كفر، واعلموا رحمكم الله أن هذه فرصة فانتهزوها، وفريسة فناجزوها، وغنيمة فحوزوها، ومهمة فأخرجوا لها هممكم وأبرزوها، وسيروا إليها سرايا عزماتكم وجهزوها، فالأمور بأواخرها، والمكاسب بذخائرها، فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول وهو مثلكم أو يزيدون، فكيف وقد أضحى قبالة الواحد منهم منكم عشرون فقد قال الله تعالى ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ) أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره، والازدجار بزواجره، وأيدنا معاشر المسلمين بنصر من عنده: ( إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ). إن أشرف مقال يقال في مقام، وأنفذ سهام تمزق عن قسى الكلام، وأمضى قول تحلى به الأفهام، كلام الواحد الفرد العزيز العلام، قال الله تعالى ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم وقرأ أول سورة الحشر: ( سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ).

ثم قال: آمركم وإياي عباد الله بما أمر الله به من حسن الطاعة فأطيعوه، وأنهاكم وإياي عما نهى الله عنه من قبح المعصية فلا تعصوه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه.

ثم خطب الخطبة الثانية على عادة الخطباء مقتصرة، ثم دعا للإمام الناصر خليفة العصر ثم قال:

اللهم وأدم سلطان عبدك الخاضع لهيبتك، الشاكر لنعمتك، المعترف بموهبتك سيفك القاطع وشهابك اللامع، والمحامي عن دينك المدافع، والذاب عن حرمك الممانع، السيد الأجل، الملك الناصر جامع كلمة الإيمان، وقامع عبدة الصلبان صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، مطهر البيت المقدس من أيدي المشركين، أبي المظفر يوسف بن أيوب محيي دولة أمير المؤمنين، اللهم عمر بدولته البسيطة، واجعل ملائكتك براياته محيطة، وأحسن عن الدين الحنيفي جزاءه، واشكر عن الملة المحمدية عزمه ومضاءه، اللهم أبق للإسلام مهجته، ووف للإيمان حوزته وانشر في المشارق والمغارب دعوته، اللهم كما فتحت على يديه البيت المقدس بعد أن ظننت الظنون، وابتلى المؤمنون، فافتح على يديه داني الأرض وقاصيها وملكه صياصي الكفرة ونواصيها، فلا تلقاه منهم كتيبة إلا مزقها، ولا جماعة إلا فرقها، ولا طائفة بعد طائفة إلا ألحقها بمن سبقها، اللهم أشكر عن محمد صلى الله عليه وسلم سعيه، وأنفذ في المشارق والمغارب أمره ونهيه، اللهم وأصلح به أوساط البلاد وأطرافها، وأرجاء المماليك وأكنافها، اللهم ذلل به معاطس الكفار، وأرغم به أنوف الفجار، وانشر ذوائب ملكه على الأمصار، وابثث سرايا جنوده في سبل الأقطار، اللهم أثبت الملك فيه وفي عقبه إلى يوم الدين، واحفظه في بنيه الغر الميامين وإخوانه أولي العزم والتمكين، وشد عضده ببقائهم، واقض بإعزاز أوليائه وأوليائهم، اللهم كما أجريت على يده في الإسلام هذه الحسنة التي تبقى على الأيام، وتتجدد على ممر الشهور والأعوام، فارزقه الملك الأبدي الذي لا ينفذ في دار المتقين، وأجب دعاءه في قوله: (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين).

ثم دعا بما جرت به العادة ونزل وصلى.

---------------

المصدر: مجير الدين الحنبلي، الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، الجزء 1، ص 477-483

 

المرحلة السابعة: الفتح الإسلامي الثاني

المرحلة السابعة: الفتح الإسلامي الثاني

 

 

من 583هـ/1187م – 1336هـ /1917م

 

 

أسهم سقوط بيت المقدس بيد الصليبيين وتهديدهم للبيتين الآخرين بمكة والمدينة في إيقاظ الأمة المسلمة، لترد الطهر إلى القدس في عهد صلاح الدين الأيوبي، وليكمل المسلمون، عربا، وأكرادا، وأتراكا، من بعده تطهير الأرض المباركة، وإعمار المسجد الأقصى، مع استئناف مسيرة الحضارة الإسلامية الزاهرة خلال العهدين المملوكي والعثماني.

 

 

 

 

خلال الـ 30 عاما الأولى من احتلال الفرنج أو الفرنجة (الصليبيين crusaders) لبيت المقدس، لم تنقطع حملات المسلمين على ممالك الفرنجة في الشام، ولكنها كانت محدودة، ولم تكتسب بعدا شموليا إلا بعد اتخاذ استراتيجية للتحرير تعتمد على توحيد جهود الأمة وإنهاء التشرذم الذي كان عليه المسلمون وراء هدف الجهاد في سبيل الله.

 

 

هذه الاستراتيجية حمل لواءها، خلال الثلثين الأخيرين من عمر الاحتلال الصليبي للقدس، علماء عاملون، وحكام عادلون، برز منهم ثلاثة حكام، لم يكونوا عربا، وإنما كانوا أتراكا وأكرادا اتخذوا الإسلام منهجا والجهاد سبيلا. وهؤلاء القادة هم: الشهيد عماد الدين زنكي بن آق سنقر Zengi صاحب الموصل، ثم ابنه العادل نور الدين محمود Nur ad-Din، سلطان الشام ومصر، وأخيرا الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب Saladin، والذي أتم الله على يديه تحرير البيت المقدس.

 

 

اعتمدت استراتيجية التحرير على تحقيق ثلاث مراحل متتابعة: توحيد الشام، ثم توحيد الشام مع مصر، ومن ثم الإطباق على الصليبيين في بيت المقدس وتحريره من قبضتهم. وكان أهم ما ميز الحكام الثلاثة وأتاح لاستراتيجيتهم النجاح إيمانهم القوي بالله تعالى واعتمادهم الحل الإسلامي. فلم يغفلوا في سعيهم لإنجاح استراتيجيتهم عن ضرورة النهوض الشامل بالمسلمين اجتماعيا، واقتصاديا، وثقافيا، وليس سياسيا، وعسكريا فقط. وبرزت جهودهم، خاصة في عهد نور الدين وصلاح الدين، واللذين تميزت شخصيتهما أيضا ببعدها الإيماني والعلمي القوي، في نشر العلم ومحاربة البدع، خاصة بعدما أحدثه الفاطميون العلويون في مصر وبيت المقدس. فانتشرت في عهدهما المدارس وعمرت المساجد واحتفي بالعلماء، مما كان له بالغ الأثر في بث روح الجهاد لأجل تحرير البيت المقدس في الأمة.

 

 

تولى عماد الدين زنكي حكم الموصل وما يتبعها عام 521 هـ = 1127 م، وأعلن عزمه على الجهاد ضد الصليبيين، وذلك بعد مقتل والده آق سنقر الذي كانت له جولات أيضا في محاربتهم. وعرف زنكي بحزمه وشجاعته، كما عرف برعايته للجند وحرصه على أهليهم، مما كان له بالغ الأثر في نفوسهم. ففي سعيه لتطبيق استراتيجية التوحيد بهدف التحرير، واجه زنكي بحزم الحكام الذين وقفوا حجر عثرة في طريق تحقيق الوحدة الإسلامية، دون أن يتوانى عن مواجهة الصليبيين لكسر الهيبة منهم. فضم حلب وحماة، وعمرهما بالعدل، وحرر إمارة الرها Edessa، أولى الممالك الصليبية في الشرق، وذلك عام 539 هـ = 1144 م، مما عزز معنويات المسلمين إلى حد كبير. ولكن، لم يكتمل لزنكي فتح دمشق بعد أن تحالف حكامها مع الصليبيين لمنعه من ضمها. وبعد نحو 20 عاما قضاها مجاهدا، قتل زنكي شهيدا على يد جماعة من مماليكه بينما كان يحاصر قلعة جعبر، ليترك علما في ساحات العلم والجهاد هو ابنه نور الدين محمود.

 

 

ظن الفرنجة بعد استشهاد زنكي أنهم تخلصوا من خصم عنيد هدد وجودهم في الشام، وسرعان ما انقضوا على الرها في محاولة لاستعادتها بعد شهر واحد من تولي ابنه نور الدين محمود حكم حلب في عام 541 هـ = 1146 م. وكان سيف الدين غازي، أخو نور الدين محمود، قد آل له حكم الموصل، نزولا على سنة تقسيم الإمارات بين أبناء الولاة في ذلك العهد. وأثبت محمود الذي كان يبلغ 30 من عمره في هذا الوقت جدارته وأفشل محاولة الفرنجة. كما أفشل الحملة الصليبية الثانية على الشام والتي سعت لتثبيت أقدام الفرنجة بعد الهزائم المتوالية لهم على يد أبناء البيت الزنكي.

 

 

وتميز محمود بن زنكي بأنه كان عالما زاهدا عادلا، أحبه الناس، واعتبره بعض المؤرخين من أفضل الحكام سيرة في التاريخ الإسلامي، ووضعوه في مصاف الخلفاء الراشدين الأربعة وخامسهم، عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنهم جميعا. وحرص نور الدين على اتباع سياسة المهادنة واللين مع المسلمين لأجل إتمام مرحلة الوحدة ضمن استراتيجية التحرير. ولذا، لم يتمكن من ضم دمشق، التي تعد أهم حاجز بينه وبين الصليبيين في الشام، إلا بعد نحو 8 أعوام من توليه الحكم، وتحديدا في عام 549 هـ = 1154 م، وذلك إثر وفاة صاحبها معين الدين أنز وشروع الصليبيين في السيطرة عليها.

 

 

وبعد أن أتم الملك العادل نور الدين توحيد الشام، اتجهت أنظاره إلى مصر لإتمام المرحلة الثانية في استراتيجية التحرير وهي توحيد الشام ومصر، وذلك في وقت تطلع فيه الفرنج إليها أيضا مع ضعف الحكم الفاطمي فيها وتنازع الوزراء والقادة للسيطرة عليها. فقد استعان ضرغام، أحد قادة الفاطميين المشهورين، بالصليبيين على شاور، وزير الخليفة الفاطمي العاضد بالله. ولمواجهة هذا الحلف، لم يجد شاور بدا من الاستعانة بدوره بنور الدين. فأرسل نور الدين إلى مصر أحد قواده المختارين، وهو الكردي، أسد الدين شيركوه Asad al-Din Shirkuh، والذي اصطحب معه ابن أخيه صلاح الدين المولود في تكريت بالعراق، ليواجه ضرغام ويقضي عليه. ولكن شاور خشي سيطرة شيركوه على مصر بعد ذلك، فعاد ليستعين بالفرنجة لإخراج جند نور الدين منها. وما لبث شيركوه أن انتصر على شاور وحلفائه الفرنجة/ الصليبيين وذلك بعد أن استغاث به الخليفة العاضد نفسه ليمنع سقوط مصر في يدهم بعد أن تعاظم خطرهم في البلاد.

 

 

وهكذا، نجح شيركوه في طرد الصليبيين من مصر، ليصبح وزيرا لها في ظل الخلافة الفاطمية. وما لبث أن توفي شيركوه، فعين العاضد صلاح الدين خلفا له، وذلك في عام 564 هـ = 1169 م. وعمل الناصر صلاح الدين على توطيد دعائم سلطته في مصر، خاصة بعد أن أحبه المصريون لتخليصهم من أذى الفرنجة. فحرص على نشر العلم فيها واستبدال المذهب السني بمذهبها الشيعي. وبعد نحو سنتين، أمره نور الدين بإسقاط الخلافة الفاطمية في مصر، وإعلان تبعيتها للخلافة العباسية، وهو ما تم، دون أية معارضة، بل ودون أن يعلم العاضد بذلك إلى أن توفي بعد ذلك بقليل.

 

 

واستتب الأمر لنور الدين في مصر والشام، وورد مرسوم من الخليفة العباسي بتسميته "سلطان مصر والشام"، وواصل توسيع مملكته الموحدة، فشملت الموصل واليمن. ومن ثمّ، شرع السلطان العادل بالتجهز لملاقاة الصليبيين في معركة فاصلة بالشام، وعزم على التوجه لمصر ليتعجل تحرك صلاح الدين بجنده من مصر حتى يطبقا على الصليبيين. ولكن المنية وافته في شوال 569 هـ = أبريل 1174 م، بعد أن أتم المرحلتين الأولى والثانية من استراتيجية التحرير، وساهم بتحقيق نهضة شاملة للمسلمين، على مدى 28 عاما، وأيضا بعد أن صنع منبرا جميلا على أمل أن يضعه في المسجد الأقصى المبارك بعد التحرير.

 

 

منبر نور الدين زنكي المصنوع في حلب الشهباء (المصدر: دورة علوم الأقصى – د. عبدالله معروف)

 

 

استقل الناصر صلاح الدين بحكم مصر بعد وفاة نور الدين، في وقت تنازع فيه آل البيت النوري على الحكم في باقي أنحاء مملكة نور الدين لصغر سن ابنه. وكانت سيرة صلاح الدين يوسف بن أيوب أشبه بسيرة سلفه نور الدين محمود. فكان محبا للعلماء مقربا لهم، زاهدا، عادلا، سمحا. وعزم على إتمام استراتيجية التحرير من خلال توحيد الشام مع مصر من جديد. فعاد ليواجه نزعة التفرقة التي حدت ببعض الحكام للسعي وراء السيطرة ولو على مدينة صغيرة أو مجرد قلعة. واستغرقه هذا الأمر نحو 12  سنة أخرى حتى أتم توحيد دولة نور الدين من جديد. 

 

 

في هذه الأثناء، لم ينقطع صلاح الدين عن مناوأة الصليبيين لكسر شوكتهم، وللتعرف على مواطن القوة والضعف فيهم. فغزاهم في عسقلان عام 573 هـ من جهة مصر، وفتحها. وفي عام 575 هـ غزاهم من جهة الشام قرب بانياس وأنزل بهم هزيمة كبيرة أسر فيها عددا من قادتهم. واستمر الحال كذلك إلى أن نضجت الظروف لملاقاتهم في معركة فاصلة، خاصة بعد أن غدر أرناط (رينولد دي شاتيون Raynald of Chatillon)، حاكم الكرك الصليبي، بحجاج بيت الله الحرام، ورفض الاستجابة لطلب صلاح الدين بإطلاق قافلة لهم كان قد استولى عليها عام 582 هـ.

 

 

موقع معركة حطين (المصدر: بيت المقدس والمسجد الأقصى – دراسة تاريخية موثقة – محمد حسن شراب)

 

 

كان السلطان الناصر صلاح الدين عظيم الشوق للبيت المقدس، وكان كثيرا ما يرى متجهما، ويقول "كيف أبتسم وبيت المقدس أسير؟" ولذا، أحسن الاستعداد للمعركة الفاصلة التي خطط لها مع الصليبيين في موقعة حطين Battle of Hattin، بشمال فلسطين، في جمادى الأولى عام 583 هـ = يوليو 1187 م، دون أن يغفل حسن التوكل على الله تعالى. وكان النصر حليفه، فأنزل بالفرنجة هزيمة ساحقة، وأسر معظم ملوكهم، ومن بينهم صاحب الكرك الذي رفض السلطان العفو عنه أسوة بباقي الملوك، وقتله وفاء بنذر أطلقه بسبب تعرض أرناط للحجاج.

 

 

ومن ثم، انطلق صلاح الدنيا والدين ليجلي الصليبيين عن المدن الواقعة حول بيت المقدس شمالا وجنوبا بشكل حلزوني، على مدى شهرين، حرر خلالهما معظم مدن ما يعرف اليوم بفلسطين ولبنان. وبعدما اجتمعت له جيوش مصر والمغاربة، سار إلى بيت المقدس، فحاصرها لمدة 12 يوما. وبعدما نقب جنود السلطان الناصر سور المدينة في زاويته الشمالية الشرقية، أسقط في يد الصليبيين، فطلبوا الصلح. وأجابهم صلاح الدين على أن يجلوا عنها مقابل فدية عن كل منهم. وهكذا، أتم الله على يدي الناصر يوسف بن أيوب الفتح الإسلامي الثاني للمسرى الحبيب في 27 رجب 583 هـ = 2 أكتوبر 1187 م، بالتزامن مع حلول ذكرى الإسراء والمعراج بالرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم.

 

 

وتوجد حتى اليوم، وفوق محراب المصلى القبلي، المصلى الرئيسي بالمسجد الأقصى المبارك، كتابة تاريخية تخلد ذكرى هذا الفتح العظيم الذي أسعد قلوب المسلمين في كل مكان، وأطلق ألسنة الشعراء والخطباء بحمد الله تعالى والثناء على فتوح عبده صلاح الدين.

 

 

كتابة العز التاريخية للسلطان صلاح الدين فوق محراب المصلى القبلي (المصدر: دورة علوم الأقصى – د. عبدالله معروف)

 

 

اتبع صلاح الدين مع الفرنج الذين كانوا يحتلون بيت المقدس سيرة سلفه الفاروق عمر، صاحب الفتح الأول، رضي الله عنه. ورغم المذبحة الهائلة التي كانوا قد ارتكبوها بحق المسلمين قبل أقل من قرن في المدينة المقدسة، لم يغدر بهم، وتركهم يخرجون بأموالهم سالمين بعد أن يدفعوا الفدية المقررة عليهم. بل لقد فدى بنفسه كثيرا من فقراء الفرنجة غير القادرين على دفع تلك الفدية، في حين رفض الكثير من أغنيائهم ذلك وفضلوا الخروج بأموالهم المكتنزة دون أن يمدوا يد العون لأبناء جلدتهم.

 

 

وعاد المسجد الأقصى المبارك طاهرا عزيزا، حيث أزيلت الصلبان، ورفع الأذان، وأقيمت الصلاة بعد غربة طويلة، واستعادت الأرض المباركة أمنها وسلامها. وحمل صلاح الدين إلى الأقصى منبر نور الدين زنكي الذي كان قد صنع في حلب قبل نحو 20 عاما. فوضعه في صدر المصلى القبلي، المصلى الرئيسي في المسجد المبارك. وأقيمت أول جمعة في الأقصى بعد الفتح في الجمعة التي تلت جمعة الفتح، وألقيت فيها خطبة جليلة تركزت حول شكر نعمة الله تعالى الواحد الأحد على المسلمين بالإيمان وبالنصر. (رابط أول خطبة بعد الفتح الصلاحي)

 

 

بعد فتح بيت المقدس، واصل الناصر صلاح الدين تطهير الأرض المباركة من الصليبيين. ففتح الكرك، وأجلى الفرنجة عن كامل فلسطين، بل وعن كامل لبنان، ما عدا صور التي تجمع فيها أمراؤهم الذين كان السلطان قد عفا عنهم بعد حطين. وبعد أن وصل مدد من السواحل الإيطالية إلى تلك المدينة، عاد أولئك الفرنجة ليكونوا شوكة أمام المسلمين، خاصة بعد أن سيرت أوروبا حملة صليبية ثالثة قادها ثلاثة من ملوكها، منهم ريتشارد الأول ملك انجلترا، في محاولة للاستيلاء مجددا على بيت المقدس. فاحتل الصليبيون المنطقة الساحلية الممتدة من صور حتى يافا. ولكن حملتهم باءت بالفشل، واكتفوا بعقد صلح الرملة مع السلطان صلاح الدين الذي أتاح لحجاجهم زيارة المدينة المقدسة للتبرك فقط.

 

 

في هذه الأثناء، أعاد صلاح الدين بناء سور المدينة المقدسة لتحصينها من أية هجمات صليبية جديدة. وأغلق ثلاثة من أبوابها المتحدة في جزء من سوريها الجنوبي والشرقي، مع المسجد الأقصى والمبارك. وهذه الأبواب هي: الباب المزدوج، و الباب الثلاثي، وكلاهما في السور الجنوبي للأقصى وللقدس، و بابا الرحمة والتوبة (والذي يطلق عليه الصليبيون اسم الباب الذهبي ويزعمون أن المسيح عليه السلام سيعود في قيامته الثانية منه إلى المدينة) والموجود في السور الشرقي لكل من المسجد الأقصى ومدينة القدس. وبعد ستة أشهر من عقد صلح الرملة، توفي السلطان الناصر، رحمه الله، في دمشق في عام 589 هـ = 1193 م، بعد أن أدى أمانته، ووحد الشام ومصر واليمن والحجاز، وحرر البيت المقدس.

 

 

دولة صلاح الدين الأيوبي (المصدر: بيت المقدس والمسجد الأقصى – دراسة تاريخية موثقة – محمد حسن شراب)

 

 

عاد نظام الحكم الوراثي المتبع في ذلك الوقت ليؤدي إلى الفرقة بين أبناء البيت الأيوبي Ayyubid بعد وفاة صلاح الدين، مما أعاد الصليبيين الذين كانوا قد كونوا إمارة جديدة في عكا Acre بشمال فلسطين إلى احتلال القدس مرتين خلال السنوات الخمسين التي حكم فيها الأيوبيون من خلفاء صلاح الدين مصر والشام. فقد انقسمت مملكة صلاح الدين بين أبنائه وإخوته والذين تنازعوا فيما بينهم لأجل السيطرة والنفوذ، بل واستعان بعضهم بالصليبيين على بني جلدتهم، مما كان له بالغ الأثر في إضعافهم أمام الحملات الأوروبية المتوالية على الشام ومصر أيضا، والتي شملت حملة رابعة توقفت عند القسطنطينية، وخامسة فشلت في مصر، وسادسة اعتبرت تكملة للحملة الخامسة وانتهت باحتلال القدس.

 

 

 

 

ففي عهد حاكم مصر، الملك الكامل بن الملك العادل أخو صلاح الدين، والذي خشي أن يحتل الصليبيون مصر خلال حملتهم السادسة التي وصلت إلى عكا، عقد معهم صلحا عرف بمعاهدة يافا في عام 626 هـ = 1229 م، ليحمي مصر وليثير سخط المسلمين في كل مكان. فقد سمح هذا الصلح للصليبيين باحتلال القدس لمدة عشر سنوات، بشرط عدم إحداث تغيير بالمسجد الأقصى المبارك، وبشرط عدم تجديد سور المدينة الذي كان أخو الكامل، الملك المعظم عيسى، حاكم الشام، قد هدمه، قبل وفاته، خوفا من تحصن الصليبيين وراءه في حال عودتهم لاحتلال المدينة المقدسة، في ظل الخلافات الكثيرة التي أضعفت البيت الأيوبي. وبعد وفاة الكامل، عاد حاكم الشام، الملك الناصر داود بن الملك المعظم عيسى، ليخلص القدس من الصليبيين، بعدما رأى تحصنهم فيها مخالفة للصلح، مع انتهاء مدته. ولكن الناصر نفسه ما لبث أن تحالف معهم هو الآخر في حربه ضد حاكم مصر، الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل، فسلمهم القدس في عام 638 هـ، أي بعد عام واحد من إخراجهم منها.

 

 

وعظم الخطب على المسلمين، وعمت البلوى بفقد البيت المقدس ثانية. ولكنهم لم يعدموا علماء عاملين وقفوا يصدحون بالحق وينكرون صنيع الناصر في الشام، ومن قبله صنيع الكامل في مصر. وبرز من هؤلاء العلماء العز بن عبد السلام وسبط ابن الجوزي.

 

 

ورغم أنه حاول الاستعانة الصليبيين أيضا في مرحلة من مراحل صراعه مع باقي أبناء البيت الأيوبي، قرر الملك الصالح، آخر ملوك بني أيوب، بعد أن استعان بأهل مصر والشام الرافضين للتدنيس الصليبي للمدينة المقدسة، مواجهة حلف الناصر مع الصليبيين. فألف جيشاً من المماليك الذين كان لهم شأن عظيم في تاريخ الدولة الإسلامية فيما بعد، وتمكن من استرداد القدس وإخراج الصليبيين منها نهائيا في عام 643 هـ = 1245 م.

 

 

على الرغم من ميل ملوك بني أيوب للفرقة والنزاع، مما أضعفهم، وأفقدهم البيت المقدس مرتين، فقد تركوا آثارا كثيرة جليلة فيه وفي محيطه القريب. ففي عهد الأفضل بن صلاح الدين al-Afdal bin Saladin، حاكم الشام، وقفت حارة المغاربة المحاذية لحائط البراق في السور الغربي للمسجد الأقصى المبارك، على المغاربة الذين قدموا للمشاركة في الفتح الصلاحي، وبنيت فيها المدرسة الأفضلية. وفي عهد الملك المعظم عيسى بن الملك العادل، والذي أحب القدس حبا جما، أقيمت كثير من المنشآت داخل المسجد الأقصى، منها صهريج عيسى، وسبيل شعلان لتوفير المياه في المسجد المبارك، كما أقيمت المدرسة (أو القبة النحوية) في الزاوية الجنوبية الغربية من صحن الصخرة الواقعة في قلب الأقصى، وكذلك أقيم رواق عرضي في مدخل المصلى القبلي الرئيسي في المسجد الأقصى، فضلا عن إقامة مطهرة على بعد 50 مترا من السور الغربي للمسجد الأقصى، يولج إليها من باب المطهرة في هذا السور.

 

 

أهم الآثار الأيوبية في المسجد الأقصى (المصدر: دورة علوم الأقصى – د. عبدالله معروف)

 

 

غير أن تخليص الأرض المباركة من براثن الصليبيين نهائيا لم يتم إلا في عهد المماليك Mamluks الذين أعقبوا الأيوبيين في حكم مصر ثم الشام. فقد توفي الملك الصالح أيوب سلطان مصر والشام، في وقت حاصر فيه الصليبيون دمياط بمصر في إطار حملتهم السابعة، بزعامة لويس التاسع ملك فرنسا. ولكن زوجته، شجرة الدر، نجحت في إدارة البلاد، وقيادة المعركة ضد الصليبيين حتى هزيمتهم. وبعد مقتل ابنه توران شاه الذي آل إليه الأمر بعد ذلك، على يد مماليك أبيه، لسوء سيرته، تولت شجرة الدر الحكم، ثم تزوجت من عز الدين أيبك أحد أمراء المماليك، وتنازلت له عن سلطنة مصر، في سنة 648 هـ = 1250 م، لتبدأ بذلك دولة المماليك الذين يوصفون بالأئمة والذين أثبتوا جدارة في وقت أضيف فيه خطر المغول أيضا إلى خطر الصليبيين على الأمة الإسلامية.

 

 

سرعان ما استباح المغول، الذين كانوا قد استولوا على الصين وكوريا، وسيطروا على مناطق المسلمين في تركستان وأفغانستان والهند وفارس، الخلافة العباسية في العراق، فقتلوا الخليفة العباسي المستعصم بالله، واحتلوا العاصمة بغداد في سنة 656 هـ = 1258 م. وشرع المغول من فورهم في إسقاط مدن الشام الكبرى، مدينة تلو أخرى. وكانوا في اكتساحهم للعالم المعروف آنذاك، والذي شمل روسيا وأجزاء من أوروبا، يثيرون الرعب في نفوس أعدائهم بالمذابح الرهيبة التي يرتكبونها، مما كان له بالغ الأثر في  تقدمهم. وفي محاولة لاستغلال هذا النجاح، وجه قائدهم هولاكو رسالة تهديد إلى سلطان المماليك آنذاك، السلطان المظفر، سيف الدين قطز محمود بن ممدود Saif ad-Din Qutuz، والذي يعد ثاني أهم سلاطين المماليك بعد عز الدين أيبك، يطلب منه فيها تسليم مصر. غير أن محمودا، الذي كان قد أنهى تمردا في الشام لتوه، والذي عرف بصلاحه وتقواه، اختار مواجهتهم.

 

 

واستعان السلطان المظفر بالعلماء لبث روح الجهاد وتعزيز الروح المعنوية في نفوس المسلمين، خاصة بعد سقوط دمشق وحلب بيد المغول، وإقدام هؤلاء على ارتكاب المذابح الرهيبة بحق أهلهما. وبعد أن استكمل عدته، خرج بجنده من مصر لملاقاة المغول في الشام، ووقف أمامهم في موقعة عين جالوت Battle of Ain Jalut، شمال شرقي فلسطين، رافعا راية واإسلاماه، ليلحق بهم هزيمة منكرة في يوم الجمعة 25 رمضان 658 هـ = 6 سبتمبر 1260 م. وبهذا، أوقف محمود، الذي عرف من ثم بقاهر التتار، الزحف المغولي على العالم الإسلامي، وطارد فلولهم حتى دمشق، فحررها، ووحد الشام ومصر من جديد.

 

 

في نفس هذا العام، خلف الملك الظاهر، ركن الدين بيبرس Baibars، السلطان المظفر قطز، في حكم مصر والشام. فوطد هذا سلطان دولة المماليك، واستقدم الخليفة العباسي إلى القاهرة ليظل منصبه شرفيا طيلة حكم المماليك إلى أن آل الأمر إلى العثمانيين بعد نحو قرنين ونصف. وكانت لبيبرس، الذي اتسم عهده بالاستقرار، وامتد 17 عاما، صولات وجولات في مواجهة الصليبيين الذين كانوا لا يزالون يحتفظون بمملكة في عكا، والذين تحالفوا مع المغول للقضاء على المسلمين وللعودة لاحتلال بيت المقدس. فاسترد منهم قيسارية وأرسوف، ثم أنطاكيا عام 1267 م، والتي كان فتحها أعظم انتصار حققه المسلمون على الصليبيين منذ الفتح الصلاحي لبيت المقدس.

 

 

 

مسجد الظاهر بيبرس في القاهرة

 

 

كما حقق السلطان المنصور سيف الدين قلاوون، والذي دام حكمه 10 سنوات من عام 1280 م إلى عام 1290 م، عدة انتصارات على الفرنجة في الشام حتى لم يعد بأيديهم سوى عكا وصور وصيدا وعتليت. وبعد أن عقد قلاوون عزمه على الهجوم على عكا لإجلائهم عن آخر معاقلهم بالشام، وافقته المنية. لكن ابنه الأشرف خليل بن قلاوون al-Ashraf Khalil، الذي تولى السلطنة بعده، أكمل الاستعدادات لمهاجمة الصليبيين، وهاجمهم بالفعل رغم محاولاتهم إقناعه بالعدول عن ذلك وعقد هدنة. فحاصرهم في عكا، وأخرجهم منها في عام 690 هـ = 1291 م. وخلال الأشهر التي تلت ذلك، ظل الملك الأشرف يتتبع الصليبيين حتى أخرجهم من باقي أماكن تواجدهم بالمنطقة بشكل نهائي، وذلك بعد قرنين من بدء حملاتهم، ليخلد التاريخ اسمه في سجل الفاتحين العظام.

 

 

وكما شهد عهد المماليك القضاء على آخر وجود صليبي بالشام تماما، شهدت القدس ومسجدها الأقصى المبارك، في عهدهم، عصرا ذهبيا انتعشت فيه الحركة العلمية والعمرانية بالمدينة التي لا تزال تحتفظ بطابعها المملوكي حتى اليوم. وشاع في هذه الفترة وصف المسجد الأقصى المبارك بالحرم تشريفا له، رغم عدم صحة هذا الوصف شرعا، نظرا لأن تحريمه لم يرد في الكتاب ولا في السنة. وابتكرت وظيفة "ناظر الحرمين الشريفين"، ويقصد بهما المسجد الأقصى في القدس، والمسجد الإبراهيمي في الخليل، للإشراف على شئون القدس والخليل خاصة، لما لهما من أهمية دينية.

 

 

وبرزت الحركة العمرانية المملوكية خاصة في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون Al-Nasir Muhammad bin Qalawun والذي دامت فترة حكمه الثالثة 32 عاما من سنة 709 هـ = 1309 م إلى سنة 741 هـ = 1341 م. فقد تميز عهده بالاستقرار بعد القضاء على فلول الصليبيين، واعتبر من أزهي عصور حكام دولة المماليك الأولى (المماليك البحرية Bahri Mamluks)، وآخر أهمها. فأنشئت في عهده الكثير من المدارس والخانقات والربط في المسجد الأقصى المبارك ومحيطه القريب وعمر بالعباد والزهاد وطلاب العلم.

 

 

ومن أبرز المنشآت التي تمت في عهد الناصر محمد: رباط الكرد بجانب باب الحديد (باب أرغون)، أحد الأبواب الغربية للمسجد الأقصى المبارك، والمدرسة الدوادارية (جزء منها يستخدم اليوم لمدرسة ثانوية الأقصى الشرعية) في مدخل باب العتم (باب فيصل/العتم) في السور الشمالي للأقصى، والمدرسة الجاولية (إحدى ثلاث مدارس تكون ما يعرف بالمدرسة العمرية) بمحاذاة الزاوية الشمالية الغربية للمسجد الأقصى المبارك. والمدرسة العمرية مدرسة شهيرة استخدمت دارا للحكم في العهد العثماني، ثم مدرسة، ثم رباطا للمجاهدين الفلسطينيين في عصر الاحتلال البريطاني. وكذلك أنشئت في عهد الناصر محمد بن قلاوون المدرسة الكريمية بباب حطة، والمدرسة التنكزية بباب السلسلة في السور الغربي للمسجد، والتي استخدمت محكمة شرعية في العهد العثماني، والمدرسة الأمينية إلى الغرب من باب العتم في السور الشمالي للمسجد، والمدرسة الملكية في السور الشمالي للأقصى، وكذلك الخانقاه أو الزاوية الفخرية إلى الغرب من جامع المغاربة (المتحف الإسلامي حاليا) بالمسجد الأقصى المبارك.

 

 

 

أهم الآثار المملوكية في المسجد الأقصى (خاصة في الرواق الغربي)

 

 

وفي عهد الناصر بن قلاوون أيضا، أضيفت الزخارف المملوكية الراقية لقبتي الجامع القبلي والصخرة من الداخل، والكتابة التأريخية للسلطان صلاح الدين والسلطان محمد بن قلاوون. كما أنشئ سبيل الكأس في الساحة الممتدة بين قبة الصخرة والمصلى القبلي. كلك أقيم باب القطانين الذي يعد من أجمل وأكبر أبواب المسجد الأقصى المبارك في وسط السور الغربي للمسجد المبارك.

 

 

وفي عصور المماليك الذين خلفوا محمد بن قلاوون حتى قيام دولة المماليك الثانية (المماليك البرجية Burji Mamluks) عام 784 هـ = 1382 م، أقيمت عدة مدارس، هي: المدرسة الفارسية في السور الشمالي للأقصى بين المدرسة الأمينية في الشرق والمدرسة الملكية في الغرب، وأيضا المدرسة الأسعردية، في السور الشمالي للأقصى ، قرب المدرسة الجاولية (التي هي جزء من المدرسة العمرية). كما أقيمت المدرسة المنجكية في السور الغربي للأقصى شمالي باب الناظر.

 

 

كذلك أبدت دولة المماليك البرجية اهتماما بالغا بالقدس وعمارتها. فأنشئت في عهدها المدارس: الصبيبية (تعد أيضا جزءا من المدرسة العمرية وتقع غربي المدرسة الأسعردية)، في السور الشمالي للأقصى، ومدرستان: المدرسة الباسطية والمدرسة الغادرية، وكلتاهما في الرواق الشمالي للأقصى، وكذلك المدرسة العثمانية بباب المطهرة في السور الغربي للأقصى.

 

 

 

أهم الآثار المملوكية في المسجد الأقصى (خاصة في الرواق الشمالي)

 

 

وبرز من بين سلاطين دولة المماليك الثانية الملك الأشرف برسباي الذي أوقف قريتين في غور الأردن على قبة الصخرة المشرفة، والملك الأشرف إينال والذي وضع المصحف الشريف في المصلى القبلي بالأقصى ورتب له قارئا.  كما برز من بينهم الملك الأشرف قايتباي والذي تولى الحكم عام 872 هـ = 1467 م، وتوفي عام 901 هـ = 1496 م، والذي يعد من أهم سلاطين دولة المماليك البرجية. فجدد في عهده بناء السبيل المعروفة باسمه، سبيل قايتباي، في الساحة الغربية للأقصى المبارك فوق البئر المقابلة لدرج الصخرة. كما جدد بناء المدرسة الأشرفية والتي عدها المؤرخون الجوهرة الثالثة في المسجد الأقصى المبارك. وبدوره، أبدى السلطان قنصوه الغوري، الذي كان من أواخر ملوك هذه الدولة، اهتماما بإعمار المسجد الأقصى المبارك، على الرغم من المشاكل التي واجهته. فكسا سطح المصلى القبلي الرئيسي بالأقصى وقبته بالرصاص وتركه في هيئة هي أقرب لهيئته الحالية.

 

 

كان الضعف قد دب في الدولة المملوكية منذ أواخر عهد الملك الأشرف قايتباي، فأصابها ما يصيب الأمم والحضارات من أسباب الضعف، كالمظالم، والإسراف في مظاهر الترف والبذخ. ولكن الحضارة الإسلامية، بخلاف غيرها من الحضارات، ما فتئت تحمل رايتها أمة بعد أمة، ودولة بعد دولة، كلما ضعفت إحداها في موضع، ظهرت أخرى في موضع آخر لتواصل حمل الراية. ففي هذه الأثناء، برزت قوة الأتراك العثمانيين Ottomans في تركيا وشرق أوروبا، خاصة بعد أن تمكن سلطانهم محمد الفاتح، في سنة 857 هـ = 1453 م، من فتح القسطنطينية التي بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتحها، وامتدح فاتحها وجيشه قبل أكثر من 9 قرون.

 

 

وسرعان ما أظهر العثمانيون جدارتهم لقيادة الأمة الإسلامية بتمكنهم من توحيد أجزاء كبيرة من دولة الإسلام في المشرق والمغرب لمواجهة عدوان الدولة الصفوية في إيران من جهة، والغزو الأوروبي الأول للعالم الإسلامي في العصر الحديث من جهة أخرى. وكانت بوادر هذا الغزو قد ظهرت على يد البرتغاليين، بالتفافهم حول القارة الأفريقية، وتأسيس وجود محدود لهم في جنوب البحر الأحمر، بقيادة فاسكو دي جاما، في سعيهم للسيطرة على طرق التجارة بين الشرق والغرب، وإنهاء الهيمنة الإسلامية على هذه الطرق، بل وهددوا بمهاجمة البيتين الحرام والمدني في الحجاز من جهة الجنوب.

 

 

ففي عام 922 هـ = 1516 م، وقعت موقعة مرج دابق، على مشارف حلب، بين قنصوه الغوري وبين السلطان العثماني سليم الأول، والتي انتصر فيها العثمانيون ليسيطروا من ثم على الشام. كما انتصروا في العام التالي على طومان باي، آخر سلاطين المماليك، في موقعة الريدانية بالقاهرة، وأجبر السلطان سليم الأول الخليفة العباسي هناك على التنازل له عن الخلافة، لتنتقل بذلك من القاهرة إلى العاصمة العثمانية "القسطنطينية". وهكذا، تسلمت الراية الإسلامية دولة فتية جديدة لتكمل مسيرة الحضارة الإسلامية وتواصل تعمير المسجد الأقصى المبارك.

 

 

استطاع العثمانيون، وعلى مدى أربعة قرون، الحفاظ على وحدة المسلمين وقوتهم وحماية الأرض المباركة، قلب العالم الإسلامي، من حملات ملوك وأمراء وقادة أوروبا الذين ظلوا، منذ طردهم منها للمرة الثانية على يد صلاح الدين، يتحينون الفرصة للانقضاض عليها. فقد امتدت دولة العثمانيين لتشمل تركيا، والشام، ومصر، والسودان، والحجاز، والعراق، والخليج العربي، وشمال أفريقيا، بل وأجزاء واسعة من شرق أوروبا شملت اليونان، والبلقان، ووصلت حتى مشارف فيينا. وبذلك شملت أجزاء حيوية من قارات العالم القديم الثلاث؛ آسيا وأوروبا وأفريقيا، وضمت كل مدنها المهمة تقريبا، ما عدا روما، فكانت إحدى أقوى وأهم القوى العالمية في العصر الحديث.

 

 

خريطة توضح توسع الإمبراطورية العثمانية

 

 

وكانت للعثمانيين آثار وإنشاءات عظيمة في القدس الشريف، بدأت مع بداية حكمهم لها، واستمرت حتى نهايته، ودللت على مدى إدراكهم لقدسيتها واهتمامهم بها. فمع وصول السلطان سليمان القانوني إلى كرسي الخلافة عام 926 هـ = 1520 م، بعد وفاة أبيه سليم الأول، شهدت المدينة حركة عمرانية نشيطة استمرت طوال سني خلافته التي امتدت 46 عاما حتى وفاته سنة 1566 م. فهو الذي عمر سور المدينة الحالي، والذي يتحد مع سور المسجد الأقصى المبارك في زاويته الجنوبية الشرقية، وجدد إغلاق بابا الرحمة والتوبة (الباب الذهبي) في السور الشرقي للأقصى وللمدينة. كما جدد قبة الصخرة وأعاد تبليطها، واستبدل الفسيفساء الأموية المذهبة في جدارها الخارجي بالقاشاني الأزرق الذي نراه اليوم. كما أنشأ سليمان القانوني عدة أسبلة لتيسير وصول المياه إلى المدينة ومسجدها، من بينها سبيل سليمان في الساحة الشمالية للمسجد الأقصى المبارك إلى الشمال من باب العتم (باب فيصل/العتم).

 

 

فضلا عن ذلك، برزت فنون معمارية عثمانية خاصة في القدس ومسجدها المبارك، من بينها إنشاء التكايا، مثل تكية خاصكي سلطان التي أوقفتها روكسيلانة زوجة سليمان القانوني على الفقراء. كما ظهرت الخلاوى، ومفردها خلوة، وهي أماكن للاختلاء للعبادة ومدارسة العلم تركزت في صحن قبة الصخرة المشرفة في قلب المسجد الأقصى المبارك وحولها. وأضاف العثمانيون إلى القباب الموجودة في صحن الصخرة قبابا أخرى مثل قبة الخضر، وقبة الأرواح، وقبة النبي. إضافة إلى ذلك، يظهر الأثر العمراني العثماني في تجديد مئذنة باب الأسباط الأسطوانية القريبة من باب الأسباط في السور الشمالي للمسجد الأقصى المبارك.

 

 

 

أهم الآثار العثمانية في المسجد الأقصى (المصدر: دورة علوم الأقصى – د. عبدالله معروف)

 

 

وفي عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (والذي تولى الخلافة لمدة 33 عاما من سنة 1293 هـ = 1876 م، وحتى أجبر على التنازل عن العرش في سنة 1327 هـ = 1909 م)، تم تعمير المسجد الأقصى المبارك، ورصفت شوارع القدس رصفا هو الذي نراه اليوم في معظمها. كما أجريت في عهده مسابقة في الخط العربي على مستوى العالم الإسلامي كلف الفائز بها بكتابة سورة يس على الجدار الخارجي لقبة الصخرة في قلب المسجد الأقصى المبارك، فوق القاشاني العثماني، بينما كلف خطاط آخر بكتابة نفس السورة في الحرمين الشريفين.

 

 

 

جزء من جدار قبة الصخرة وعليه آيات من سورة يس التي كتبت كاملة على الجدار فوق القاشاني الأزرق في عهد السلطان عبد الحميد الثاني 

 

 

على أن أهم ما أثر عن هذا السلطان هو تمسكه بالحفاظ على السيادة الإسلامية على القدس مع تصاعد الحركة الصهيونية. فقد منع هجرة اليهود إلى فلسطين وشراءهم الأراضي فيها، بموجب قانون صدر عام 1882 م، ثم عدل هذا القانون فسمح لهم بدخولها بقصد العبادة شريطة ألا يبقوا فيها أكثر من ثلاثة أشهر. وعلى الرغم من ضعف دولته في أواخر عهدها، رفض عروضا ضخمة قدمتها الحركة الصهيونية، بزعامة تيودور هرتزل، مقابل السماح بالاستيطان اليهودي في فلسطين. وأكد، في رد بليغ على هذه العروض (رابط لبعض ما ورد في الرد)، أن تقطيع أوصال الدولة العثمانية أهون عليه من التخلي عن هذه البقعة المباركة من الأرض. وكان لهذا الموقف أثر بالغ في عزله فيما بعد، ومن ثم إلغاء الخلافة الإسلامية على ما سنرى في المرحلة التالية من تاريخ الأرض المباركة.

 

 

وهكذا، لعبت قضية القدس والمسجد الأقصى المبارك دورا أساسيا في بعث نهضة المسلمين من جديد، ودفعهم، في عهد الأيوبيين والمماليك ثم العثمانيين، إلى تصحيح مسيرتهم بعدما أصابها من ضعف منذ الدولة العباسية الثانية. ورغم أنهم لم يعودوا لمثل سيرتهم الأولى ونقائهم الذي ميز عهد النبوة والخلافة الراشدة، إلا أنهم ظلوا الأقرب إلى طريق الأنبياء من بين الأمم الأخرى، ولذا، مكن الله لهم في الأرض، على مدى قرابة أربعة عشر قرنا هجرية = ثلاثة عشر قرنا ميلادية، فمثلوا بذلك أكبر عائق أمام قوى الظلام والجاهلية في انتشارها وازدهارها.

 

 

 

مظاهر عدل أرساها المسلمون في بيت المقدس عند الفتح الأول (بحث)

 

إعداد: آيه يوسف – إشراف: د. عبدالفتاح العويسي

 

 

في مادة "بيت المقدس بين الاحتلال والتحرير 1099-1244م"

 

للفصل الأول من العام الأول في دبلوم دراسات بيت المقدس على الإنترنت

من مجمع دراسات بيت المقدس، بانجلترا

 

بتاريخ: 27-11-2011م

 

 

 

مقدمة

 

عني الإسلام بإرساء العدل بين الناس، على اختلاف أجناسهم وتنوع معتقداتهم، فذكر كتابه أن الله تعالى يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وأكد رسوله صلى الله عليه وسلم ألا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، كما بيّن كتاب الله وبيّنت سنة رسوله أن التعارف هو الهدف من التنوع، وأن التدافع بين المختلفين سنّة حياتية تحفظ التوازن وتقيم الميزان.

 

وأكمل صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم مسيرته، بعد وفاته، فأتموا فتح بيت المقدس عام 16ه/637م ليمكّنوا للإسلام ولرؤيته الفريدة في هذا المكان الذي يمثل مركز البركة للعالمين (العويسي). ومثّل الفتح الإسلامي الأول لبيت المقدس تأكيداً لسيادة مبدأ العدل في الأرض من خلال اتفاقية صلح تعد نموذجا يحتذى للأجيال القادمة. وفي السطور التالية، نبرز بعض مظاهر تطبيق الرؤية الإسلامية الشمولية القائمة على العدل في بيت المقدس، مما مهد لشيوعها في العالم أجمع.

 

 

فتح بلا تدمير

 

حرص الفاتحون المسلمون على أن يكون دخولهم إلى بيت المقدس إيجابيا بنّاءا لا تدميريا، تماما مثلما كان فتح رسولهم صلى الله عليه وسلم لمكة. فرغم ما لاقاه المسلمون من عنت الروم وغيرهم من المحاربين في بيت المقدس، والذي امتد شهورا وأعواما، منذ خرجوا إلى الشام أواخر عام 12ه وحتى أتموا اتفاقية الصلح عام 16ه، إلا أنهم لم يفسدوا فيها على عكس ما اعتادت الملوك قبلهم فعله بحق القرى عند دخولها، خاصة فيما يتعلق بمنطقة بيت المقدس والتي حفل تاريخها قبل الإسلام بالتدمير والتخريب (سورة الإسراء آية 7). وآثر الفاتحون الصلح على القتال، ومنح الأمان على فرض القوة. وأزيلت الأقذار عن المسجد الأقصى المبارك وعن صخرته دون إراقة دماء ودون المساس بأي من الكنائس القائمة خارج حدود المسجد المبارك.

 

 

أمان دون كثرة شروط

 

في مقابل شرطي دفع الجزية وإخراج المحاربين، تضمن عهد الأمان الذي أعطاه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيلياء، حسب نص الطبري (ت 310ه) والذي يعتبر الأشهر، كثيرا من التفصيل فيما يتعلق بـ "الأمان" الممنوح لأهلها على أنفسهم وأموالهم ودينهم، والذي وردت الإشارة إليه نحو 8 مرات في العهد، مما جعل الأمر يبدو كما لو أن المغلوب يملي شروطه على الغالب! وهذا ما اعتبره البرفيسور ترتون أمرا بالغ الغرابة قائلا إنه "لم تجر العادة أن يشترط المغلوبون الشروط التي يرتضونها ليوادعهم الغالب، إذ العكس هو الصحيح والمنطقي" (هويدي، ص206). ولكن هذه الغرابة يمكن تفسيرها في ضوء حرص الإسلام على إعلاء الكرامة الإنسانية وإرساء العدل.

 

فضلا عن ذلك، فإن ما عرف بالشروط العمرية لا تصح نسبته إلى عمر، وينتهي البرفيسور ترتون إلى أن هذه الشروط وضعت في المدارس الفقهية ثم نسبت إلى عمر (هويدي ص 211)، خاصة وأنها تناقض سيرة عمر المشهورة في العدل مع غير المسلمين.

 

 

دستور يجمع لا يفرّق

 

تميز عهد الأمان الذي منحه عمر لأهل إيلياء، خاصة في رواياته المبكرة ونصوصه الأولى، بخطابه الذي لم يفّرق بينهم على أساس الدين، مما يجعله دستور مواطنة. والحق أن المسلمين لم يلجأوا إلى تمزيق وحدة الصف أو إلى إثارة النعرات القومية أو الدينية بين سكان بيت المقدس حتى يضمنوا لأنفسهم الاستمرار في الحكم، مثلما هو ديدن المحتلين الغرباء في السابق واللاحق، بل أتاحوا للجميع فرصا متساوية للتعايش، في مقابل الاضطهاد الذي عانى منه نصارى بيت المقدس على يد الكنيسة الرومانية البيزنطية، والذي عانى منه أيضا اليهود على أيدي معظم النصارى في ذلك الوقت، وهذا ما أكدته المؤرخة البريطانية كارين أرمسترونج بقولها: "إن المسلمين قد أسسوا نظاما مكّن اليهود والمسيحيين والمسلمين من العيش في القدس معا لأول مرة." (العويسي)

 

ورغم أن نص العهدة العمرية عند الطبري تفرد من بين نصوصها الأولى بتضمنه شرطا يمنع اليهود من مساكنة النصارى في بيت المقدس، فإن مصادر عربية ومسيحية ويهودية تشير إلى أن جماعات يهودية أقامت ببيت المقدس بعد الفتح الإسلامي مباشرة لأول مرة منذ منعهم الامبراطور الروماني هدريان من دخولها عام 135م، بل وتشير رواية مبكرة وفريدة إلى أن عمر منح يهود الشام أيضا عهد أمان خاص بهم (العويسي).

 

 

مشاركة في بناء الوطن

 

شرط الجزية الذي تضمنته العهدة العمرية، في كثير من نصوصها، والذي يؤكده القرآن (سورة التوبة، آية 29)، لم يكن ابتكارا إسلاميا (هويدي، 128)، بل هو من أهم شروط الغالبين على المغلوبين في ميادين القتال في ذلك الوقت. كما أن الجزية تشبه إلى حد كبير الضرائب التي يفرضها الحاكمون على المحكومين مقابل حمايتهم، وتقابل الزكاة المفروضة على المسلمين، وتمثل صك انتماء ووسيلة مشاركة في بناء الدولة (العويسي). كما يؤكد العويسي أن أداءها بعد الفتح تميز باليسر والتخفيف فلم تؤخذ من الصغير ولا الطاعن في السن وكانت مقاديرها ضئيلة مقارنة بما كان يدفعه أهل إيلياء للروم قبل الفتح.

 

كذلك لم تتضمن العهدة العمرية، في أي من نصوصها، منعا لأي طرف من تولي الوظائف العامة في إقليم بيت المقدس، بعد أن كانت حكرا على الروم قبل الفتح، مما ساهم في إطلاق الحريات وتشجيع أهل الإقليم على المشاركة في بنائه على قدم المساواة. وفي هذا يؤكد هويدي أن العهد الأموي شهد إسناد الإدارة المالية في الدولة لأسرة مسيحية توارث أبناؤها وظائفها لمدة قرن منذ عهد معاوية بن أبي سفيان، ومن أفرادها القديس والمؤرخ يوحنا الدمشقي المعاصر لمعاوية ولولده يزيد (ص 69) .

 

 

نموذج تدافع لا صراع

 

جاء التحول السلس المتدرج لبيت المقدس إلى الطابع العربي الإسلامي في السنوات التي تلت الفتح الأول ليثبت كونه نموذجا للتدافع والدفع بالتي هي أحسن بديلا عن التصارع. فقد أبقى المسلمون على كثير من الأوضاع الإدارية والمعيشية داخل إيلياء دون تعديل، فلم يغيروا اسمها، ولا حدودها، ولم يتخذوها عاصمة، إذ لم يكن همهم إضفاء الطابع الإسلامي عليها من خلال إقصاء الآخرين عنها أو نقل المسلمين إليها -وهو نقيض ما تفعله دولة الاحتلال الحالي لفلسطين-، بل ظل كل ما في داخل أسوار مدينة إيلياء المسورة في أيدي سكانها، في إطار ما أكدته أرمسترونج من حرص المسلمين على اعتماد الترتيبات القائمة في أية مدينة بعد فتحها (العويسي)، وأيضا في إطار ما أثر عنهم من إبقاء الأراضي في أيدي أهلها ليعمروها، ومن بناء مدن جديدة في مختلف البلاد المفتوحة لسكناهم، مثل مدينة الفسطاط في مصر، ومدينتي البصرة والكوفة في العراق. كما يؤكد د. هيثم الرطروط أن موضع المسجد الأقصى المبارك الذي جدد المسلمون بناءه بعد الفتح كان يقع أصلا خارج حدود المدينة (العويسي).  وهكذا ظلت مدينة بيت المقدس، كما تؤكد أرمسترونج، "في غالبيتها مدينة مسيحية" حتى بداية حروب الفرنجة التي أفسدت العلاقة بين شعوب المنطقة (العويسي)، والتي مهدت للفتح الثاني لبيت المقدس لاحقا على يد صلاح الدين الأيوبي عام 583ه/1187م، لتصطبغ المدينة منذ ذلك الحين بصبغة عربية إسلامية أرسخ.

 

 

خاتمة:

 

احتفلت بيت المقدس بعد الفتح العمري بالتعددية والتنوع، وقدمت نموذجا تجلت فيه أهم قيم الإسلام وهي قيمة العدل. ولعل مظاهر هذا العدل التي سردتها فيما سبق تعين على التخطيط لإنجاز الفتح القادم للأرض المقدسة بإذن الله.


 

المراجع:

 

  1. القرآن الكريم
  2. مواطنون لا ذميون، فهمي هويدي، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الرابعة 2005م
  3. تصور جديد للعلاقات الدولية نماذج بيت المقدس لتفسير الأحداث المعاصرة وتوجيهها، أ. د عبد الفتاح العويسي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع "مجد"، بيروت، 2012م

 

الصراع العربي الصهيوني من الغزو الصليبي إلى الغزو الصهيوني وبالعكس

 

د. شاكر مصطفى**
 

 

ذات يوم من صيف 1969 كنت في المكتبة الشرقية في بيروت، أختار بعض الكتب الفرنسية حين وقع لي كتاب صغير من مائتي صفحة، اسمه الإسلام والصليبيات، لمؤلف لم أسمع به بين العلماء، اسمه عمانويل سيفان، ووضعت الكتاب بين ما اخترته من الكتب، وسألني الكتبي، وهو يضع قائمة الحساب: هل أصر عليه؟ إنه غال؟ .. ووافقت، فموضوعه ضمن اهتماماتي، لكني لم أتصور أن يكون الثمن في ذلك العهد أربعين ليرة لبنانية، وأعترف أني صدمت، ولم أستطع التراجع، فكان أول ما فعلت ذلك اليوم أن أرى ما في هذا الكتاب

وفوجئت فيه بعدد من الكشوف، لو دفعت ثمنها الآلاف لكان ذلك رخيصاً رخيصاً: أولها: أن الجماعات اليهودية التي تحتل فلسطين تدرك تشابه غزوها واحتلالها للبلاد مع الغزو والاحتلال الصليبين، تدركه بوضوح وتعالجه جدياً في المنظور العلمي كتجربة رائدة، وثانيها: أنها تدرس الموقف، وفي الشرق العربي الإسلامي، في جذوره، وتحلل عناصره لتتفادى نهاية كنهاية حطين وما بعد حطين، وثالثها: ولعل الأهم، أن ثمة فرق عمل كاملة في الجامعة العبرية، تتخصص في هذا الموضوع، وعلى رأسها جوزيف براور صاحب كتاب تاريخ المملكة اللاتينية في القدس (وهو في مجلدين بالعبرية نشر سنة 1963). وتستعين هذه الفرق بالعلماء المتصهينين في الجامعات الغربية لهذا الغرض، فلهم مراكز بحث ومستشارون في جامعة باريس لدى العالم اليهودي كلود كاهن، وفي الجامعات الأخرى الأمريكية أمثال: آشتور شتراوس، وبرونشفيك، وكيستر، وأيالون المختص بالعصر المملوكي، وغريتاين الذي كتب عشرات الأبحاث حول قدسية القدس والصليبيات واليهود والإسلام.

 

هذه النقلة من الغزو الصليبي إلى الغزو الصهيوني وبالعكس، يجد فيها اليهود الغارقون في التوراة، وفي الحق التاريخي، طقساً من طقوس العبادة، إنها عندهم نقلة بين التاريخ وبين المستقبل، وليست تهمهم الصليبيات بالطبع بوصفها صليبيات، وإنما تهمهم بوصفها رموزاً تاريخية، وبوصفها إسقاطاً على المستقبل، زاوية اهتمامهم محصورة فيها في نقطة وحيدة كيف تم طرد الصليبيين من هذه البقاع نفسها التي يحتلونها؟ لهذا لا يهمهم بحثها الذي قتله الغربيون بحثاً، ولكن تهمهم الرمال المتحركة تحت الغزاة في فلسطين وحول فلسطين، الاستيطان ووسائله في الأرض هي الهاجس المؤرق، إن جذور الحاضر موجودة في الماضي، وممدودة إلى المستقبل، دراساتهم كلها ها هنا محورها.
 

إنهم يدرسون معنى الجهاد، وكيف استيقظ في المشرق العربي، ومدى حيويته في الشام بالذات، وتأثير فكرة الجهاد قبل الصليبيات وأثنائها وبعدها، يحللون مدى قدسية القدس وعناصرها في نقوس المسلمين، وردود فعلهم ضد الاحتلال الغريب، يرون كيف تمت الهدنات، وتم التعايش الفرنجي- الإسلامي أولاً، وكيف انقلب ذلك حروباً وجهاداً من بعد، رغم تطاول الزمن، كيف تحول مفهوم الجهاد القديم فحل في مفاهيم جديدة ألهبت الناس يبحثون عن مرتكزات الدعاية التي حولته دينياً إلى عنصر كره للفرنج، وعن جذور الترابط في المنطقة من مصر إلى العراق، وعن أسباب توحدها في حطين وما بعدها، بل يحللون "نصر" عين جالوت ضد المغول، ويلحقون بالتحليل الفتاوى الشرعية، ويحللون أسباب سقوط عكا الأخير سنة 1921، وخروج آخر الصليبيين على آخر المراكب من المشرق، يبحثون عن أسباب ذلك وجذوره حتى في لاوعي الشعب نفسه.
 

ولاحقت أعمال الجماعة الصهيونية في الأسئلة التي تطرحها، فإذا بين هذه الأسئلة:

1-  لماذا لم تستيقظ فكرة الجهاد في العصر الحمداني إلا على الثغور والحدود، رغم دعاية سيف الدولة ورغم خطب ابن نباتة وأشعار المتنبي؟ ولم استيقظت في العصر الصليبي في دمشق وحلب خاصة

2-  لماذا أخذ الجهاد الشكل الدفاعي السلبي والمحدود قبل الصليبيات؟ ثم أخذ الشكل الهجومي الواسع بعدها؟

3-  كيف أقيمت الصلة بين فكرة الجهاد وبين قدسية القدس مع أنها لم تكن موضوع جهاد قبل ولا موضوع قدسية.

4-  ماذا زادت الصليبيات من العناصر على قدسية القدس لدى المسلمين؟

5-  لماذا كانت معركة (ملازكرد) سنة 1071 نصراً إسلامياً نسيه الناس بسرعة، مع أنها كانت معركة حاسمة أسر فيها امبراطور بيزنطة لأول مرة ولآخر مرة في التاريخ بيد سلطان السلاجقة ملك شاه، ولماذا لم تثر المعركة فكرة الجهاد لدى أهل الشام والعراق خاصة؟

6-  لماذا لم يذكر علماء الإسلام في القرن الثاني عشر فكرة، "طلب الشهادة"، بين دوافع الجهاد؟ ولم يذكروا القدس؟ إن أعمال 12 عالماً في ذلك العصر لم تذكر ذلك، لم يذكرها إلا عالم داعية هو عز الدين السلمي في العهد الأيوبي، والإمام النووي أيام بيبرس.

7- ما موقف الشرع الإسلامي من الأموال الإسلامية التي تقع في يد الكفار؟ هل تبقى ملكاً للمسلم مهما طال العهد، أم هي غنائم للمتحابين؟ المذهب الحنفي وحده يجعلها غنائم، لكن استعادة القوى الإسلامية لتلك الأموال تعيدها إلى أصحابها، ومع ذلك فإن زنكي رغم أنه حنفي أعاد أملاك معرة النعمان سنة 1136 إلى أصحابها، وابنه محمود وهو مثله في الحنفية أعاد أملاك أعزاز سنة 1150 لأصحابها، فما تفسير ذلك؟

8-  ما معنى ألا نجد لدى الشعراء الذين رثوا الدولة الحمدانية عند سقوطها أي ذكر الجهاد، ويذكر الكرم وحده؟

 
ولاحقت نصوص التراث الذي تتداولها المجموعة الصهيونية بالدراسة، فإذا التراث الذي نتصور أنه نائم في دمائنا وفي أدراجنا هو لديهم كيان كامل على المشرحة، يستنطقونه ويحكمون علينا من خلاله يدرسون:

1-  خطب الجهاد منذ عهد الفتوح مروراً بالحمدانيين حتى العهد المملوكي.

2- كل الكتب التي ألفت في الجهاد، أو كتبت عنه، ويتوقفون بخاصة عند كتب الجهاد التي ظهرت قبيل العصر الصليبي وخلاله ومن بعده، وبخاصة عند كتاب الجهاد الذي ألفه علي بن ظاهر السلمي النحوي (المتوفى حوالي سنة 498- 499هـ) والذي كان يدرسه في دمشق في الجامع الأموي في 12 جزءاً إثر الاحتلال الصليبي للقدس مباشرة (وقد أخذوا صورة الكتاب من المكتبة الظاهرية ونشروا بعضه سنة 1966)، هذا الرجل كان أول من قال إن الحركة الصليبية واحدة في الأندلس وصقلية والشام، قالها قبل ابن الأثير بمائة سنة.

ويدرسون كذلك كتاب أحكام الجهاد وفضائله لعز الدين السلمي، وكتاب الجهاد مجهول من العهد نفسه، وكتاب الجهاد الذي وضعه القاضي بهاء الدين بن شداد لصلاح الدين الأيوبي ضمن كتابه دلائل الأحكام، فكان كتاب المخدة عنده لا يفارقه، ويتساءلون لماذا لم يضع ابن شداد في هذا الكتاب كلمة واحدة عن القدس؟ ولا قال هو ولا أحد قبله إن الجهاد من أركان الإسلام الأساسية إلا الخوارج وإلا علماء العصر المملوكي؟

3- بين ما يدرس الصهيونيون كل الكتب التي تتحدث في فضائل الشام والقدس ومقارنتها بمكة والمدينة، ويلاحظون أن الاسم في زيارة مكة هو الحج وفي القدس لا أكثر من زيارة، ويحللون في هذا السبيل خمسة وثلاثين كتاباً تتحدث في فضائل القدس والشام، ككتاب ابن الخوري (فضائل القدس الشريف)، وتقي الدين بن تيمية (قاعدة في زيارة القدس)، والكنجي الصوفي (فضائل بيت المقدس وفضل الصلاة فيها)، وشهاب الدين المقدسي (مثير الغرام في فضائل القدس والشام)، وأبي إسحاق إبراهيم المكناسي (فضائل بيت المقدس)، وعز الدين السلمي (ترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام)، وابن المرجى (فضائل بيت المقدس والخليل)، وابن الفركاح إبراهيم الفزازي (باعث النفوس إلى زيارة القدس المحروس)، ومجير الدين العليمي (الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل).

4- وبين ما يدرسه الصهيونيون دواوين الشعراء، يلاحقون حتى الصغار منهم، لا يهملون المتنبي والمعري، لكنهم يدرسون الغزي، وديوان ابن النبيه، وابن الساعاتي، وابن الخياط، وابن سناء الملك، والبوصيري، وابن عنين، والبهاء زهير، وعمارة اليمني، والملك الأمجد، وسبط ابن التعاويذي، وغيرهم وغيرهم ممن عاشوا الفترة الصليبية لعلهم يكتشفون آثارها في قوافيهم.

5- ويدرسون مؤلفات العماد الأصفهاني، والقاضي الفاضل، والثعالبي، وابن جبير، ورسائل ضياء الدين ابن الأثير، وكتاب الإشارات للهروي، ورسائل ابن عبد الظاهر، وكتابات أسامة بن منقذ وخطب عبد الرحيم ابن نباتة.

6- ويدرسون كتب الفقه والفتاوى، بخاصة التي أصدرها العلماء، كالإمام النووي، وكتاب المغنى لموفق الدين بن قدامة.

7- ويدرسون ويسألون حتى السير الشعبية، ويرونها منجم المشاعر العميقة للجموع المتتالية، يرون فيها المرأة الحقيقية، فهل فتح أحد منا قصة الأميرة ذات الهمة (سيرة المجاهدين وأبطال الموحدين)، أو أسيرة عنترة، أو فتوح الشام للواقدي، أو فتوح الشام الأخرى للأزدي البصري، أو قصة علي نور الدين المصري مع مريم الزنارية، إنه سيرى فيها ما يكشفه الصهيونيون من المشاعر، إنهم يصلون حتى إلى تحليل النكات والنوادر، لماذا كل هذا العناء والجهد؟ ليس العلم وحده هو ما يقصدون، وإلا كانت لديهم آلاف المواضيع الأخرى الجديرة بالدراسة، إنهم يتحسسون في الصليبيات ونهايتها وجعهم، قلقهم، مصير الغد.

 

إن عقدة الصليبيات تلاحقهم، تؤرق استقرار المشروع الصهيوني كله، توغل وراءه فيوغل وراءها بحثاً ودرساً، السؤال الأساسي المطروح: كيف يتخلصون من مصير مملكة القدس الصليبية وتوابعها؟ كيف يأمنون من حطين أخرى مقبلة؟ .. كل قرون الاستشعار في هذا الأخطبوط الوحشي موجهة نحو الحروب الصليبية بالذات، يريدون أن يعرفوا كيف نبتت خيول حطين وامتطتها العواصف؟ وكيف عبرت مملكة القدس إلى التاريخ المنسي من الباب الخلفي فلم يبق لها من آثر؟ كان الناس عند وصول الفرنج إلى الشام أكواماً من الرمال ذرتها السيوف الصليبية مع الريح.


فكيف تحول مواطنو الريح هؤلاء إلى كتلة صخرية صلدة تحطم عليها الفولاذ الفرنجي فجأة ومرة واحدة، دايان قال سنة 1967 إن جيوشه انساحت خلال القوى العربية كالسكين في الزبدة، فهل تتحول الزبدة قنبلة تذهب بالسكين وصاحب السكين؟ هذا القلق المصيري سببه أن اليهود الغارقين في التاريخ والمعتمدين في استراتيجيتهم الدعائية على التاريخ يريدون أن يخرجوا من نفق التاريخ.


إسرائيل تبحث عن المستقبل وهي مندفعة بكليتها نحو الماضي: دينها، لغتها، رجالها، قيمها، تشريعها، صلواتها، شمعدانها، رموزها، وطواقي رجالها كلها موصولة مع الماضي بخيط عنكبوتي ممدود، لهذا تشكل الصليبيات جرحها الذي تريد أن تتجاوزه، إنها تريد التسلل من أحد الثقوب في التاريخ (وما أكثر الثقوب) إلى هذا العصر.
 

ويعرف الصهيونيون، يدرسون، يحللون كل التوازيات بين الصليبيات الغربية وبين الصهيونية، ويتوقفون عند النهاية المأسوية يريدون تفاديها، إنهم وهم المهرة في استخدام التاريخ ولي عنقه، يحاولون أن يهربوا من لحظته الأخيرة! فأين هذا التوازي وأين ينتهي؟


سآتي على التشابهات فقط وأترك التباينات القليلة، وهي ناجمة عن اختلاف العصرين، إن كل الاستراتيجية والتكتيك الصهيونيين موجودان في الصليبيات.


إنا لا نكاد نجد في التاريخ حركة كالحروب الصليبية كان نصيبها من الخيال وتأثير الأسطورة بقدر نصيبها من الآلام المآسي، إلا الحروب الصهيونية، والغريب أن مكان الكارثتين واحد، هو فلسطين، ولسنا نحتاج إلى أي جهد في التقاط التوازي الذي يصدم العين بين المغامرة الصليبية الفاشلة والمغامرة الصهيونية التي تقلدها، المغامرتان من نسيج واحد، يكفي أن نقرأ قصة إحداهما لتقفز الأخرى أمامك على الأسطر، على كل سطر وفي النقاط والفواصل، وإن شئت تحركت في الحديث قافزاً من هذه إلى تلك ومن تلك إلى هذه دون أن تحس بأنك تقفز 800 أو 900 سنة بعواصفها وأثقالها، دعونا نمش في المغامرتين خطوة خطوة، إن التشابه يبدأ هنا منذ الخطوة الأولى.


أولاً: القضية الصهيونية في منظورها الشامل إنما هي مشكلة أوروبية داخلية خالصة، وجدت حلها في عمل خارجي وعلى أرض خارج أوروبا، والقضية الصليبية بدورها إنما هي مشكلات أوروبية داخلية بدورها حلت على الطريقة ذاتها، التكاثر السكاني قبل الصليبيات مع تدهور الزراعة وانتشار المجاعات وكوارث الطبيعة والأوبئة سنوات طويلة بعد أخرى، وتعاظم المشاعر الدينية، إضافة إلى الظلم الإقطاعي وتراكم الديون الربوية وكثرة الفرسان، ولا أرض للفرسان فيما الحروب الداخلية تفترس الأمن والبشر، كل ذلك كوّن مشكلة التكاثر السكاني وحقد الأوروبيين على اليهود المرابين ومشكلات العمال الفقراء في شرق أوروبا والزحام القومي الهتلري وكلها غارقة في الجذور الاقتصادية بإلقاء هذه الفضلات البشرية- في نظرها من النافذة على الجيران!
 

ثانياً: ونمضي خطوة أخرى، لنرى أن الحركة الصليبية شملت كل أوروبا، في الصليبيات تحركت جموع شتى من مختلف الأمم الأوروبية من السويد والنرويج، من إنكلترا وفرنسا ومن ألمانيا والدانمرك وقلب المجر، كلهم تحركوا نحو إغراء المشرق! لم تكن الحركة ثماني حملات كما يزعمون، كانت مدداً لا ينقطع، وسيلاً من البشر يتحرك على السفن وفي البر مدار السنوات المائتين التي امتدتها الحروب، قد تكون الحملات بدورها أكثر من مائتين أو ثلاثمائة حلمة صغيرة وكبيرة لبضعة ملايين، بعضهم حجاج، وبعض محاربون، وكثير منهم تجار أو مغامرون، وأكثرهم فقراء، الكل نزحوا وراء حلم يمتزج فيه المسيح برفيف الذهب، هل يذكركم هذا بمجموعة الأمم التي تحشد منذ مائة سنة في فلسطين، بابل القرن العشرين، لغات وأجناساً وعادات ومن كل زوج غير بهيج؟ وتحشد وراء حلم يمتزج فيه الإله يهوا بطائرات الفاتنوم؟


ثالثاً: وكما انتصب للصليبيات قائد فكري في شخص البابا أوربان الثاني، الذي أعلن الحركة في مجمع كليرمون سنة 1095، وحدد لها الطريق والهدف النهائي: فلسطين أرض المسيح، أطلقها وترك لمن بعده المسير بها وتحمل عقابيلها، كذلك كان للصهيونية رائدها الفكري في شخص ثيودور هرتزل، الذي كتب لها كتاب الدولة اليهودية سنة 1967، ثم أعلن مع المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1897 في بال أن مكان هذه الدولة هو فلسطين: أرض إسرائيل، كان هرتزل هو بابا الصهيونيات، أطلقها وترك للآخرين مهمة التنفيذ.
 

رابعاً: ونصل إلى العامل الديني في الحركتين الصليبية والصهيونية، لنرى أشكالاً لا تنتهي من التوازي والتشابه تحتاج إلى التوقف الطويل والتعداد الطويل:


أ- ما الذي رفعه الصليبيون هدفاً، وما الذي رفعه الصهيونيون؟ شعار واحد رفعه الطرفان الصليبيون تحركوا لتخليص القبر المقدس، والصهيونيون تحركوا لتخليص الهيكل المقدس، ولو أنه لم يبق منه إلا في الذاكرة التوراتية شيء على الأرض! الإيديولوجية التي رفعت في المشروعين واحدة، وراء كل من الشعارين حينئذ لا ينتهي من المشاعر الدينية المتقدة، ولكنها تتمركز في النهاية في كلمة محددة، وفي نقطة من الأرض محددة بدورها، وكما سمي الصليبيون فلسطين أرض المسيح يعنون بذلك أنها أرضهم، كذلك يقول الصهاينة إنها "أرتز إسرائيل" أرض الميعاد، بوعد توراتي لا يزول.


ب- إذا كانت الحرب الصليبية أول حرب إيديولوجية، بعد الفتوح الإسلامية، وكانت هذه الإيديولوجية دينية بالضرورة، ولم يكن بالإمكان تحريك الجموع في العصور الوسطى الغارقة في الدين دون إيديولوجية دينية، فإن هذه الإيديولوجية نفسها قد استخدمت من قبل الصهيونية في تحريك آخر جماعة متحجرة مغلقة من الجماعات الأوروبية، وهم اليهود، للغرض نفسه في الحرب الصهيونية القائمة، محو الإثارة عند الطرفين هي فلسطين والقداسة فيها للقبر أو للهيكل.


ج- لم تحمل الحروب الصليبية هذا الاسم الديني أبداً لا في عهدها ولا بعده، في القرن السابع عشر ولأسباب تبريرية دينية شاع هذا الاسم ليغطي برداء الصليب فترة مائتي سنة من المآسي والحروب ليس لها ما يبررها، المسلمون الذين عاصروها والكاثوليك الغربيون الذين شنوها كانوا على السواء يسمونها باسمها: الأوائل يسمونها حروب الفرنجة، والآخرون يسمونها المآثر والأعمال التي تمت فيما وراء البحار، أو التي تمت في الشرق، أو أعمال الفرنجة، الحركة الصهيونية بدورها لم تسم نفسها الحركة اليهودية، وسمت نفسها الحركة الصهيونية، ولو أن العنصرية اليهودية المتزمتة تلفها بكلمات التوراة وإسرائيل والناموس والشمعدان السداسي العتيق.


صحيح أن الحرب الصليبية معقدة الدوافع، كالحركة الصهيونية سواء بسواء ولو جمعت مختلف دوافعها بعضها إلى بعض لوجدت أن العامل الديني قد يأتي بين العوامل الأولى لا سيما في فترة الإعداد وأيام الحملات الأولية، وقد يعصف بالنفوس تارة بعد أخرى، لكن العوامل الدنيوية كانت هي التي تعصف بهذه النفوس نفسها في حالات أخرى، والخليط الصليبي، كالخليط الصهيوني، متباين الطبقات والمشارب، فيه المغامرون والحجاج واللصوص والتجار والنبلاء والمحاربون وشذاذ الآفاق والرهبان والهاربون من العدالة والباحثون عن الثروة وفي كل واحد من هؤلاء جانب ديني قد يلتهب في بعض الظروف، لكن من الذي يكبح الجوانب الأخرى المادية اللاأخلاقية أو الوحشية في ظروف أخرى؟.. وهكذا كانت إيديولوجية الصليبيات الدينية غطاء مناسباً، وإن يكن أحياناً غير مخالف لأطماع النبلاء في الأرض، والرهبان الكاثوليك في الانتشار والسيطرة على كنيسة المشرق، والتجار بالربح والامتيازات، والفلاحين العاديين بالخلاص من الديون ومن المجاعات ومن الظلم الإقطاعي والفوز في النهاية بالسماء! أليس هذا هو الوضع الصهيوني نفسه؟


د- الصليبيات بدأت حجاً إلى القبر المقدس تحول إلى حج مسلح، ولقد استغلت الحج، وشجعته الأساطيل البحرية الإيطالية النامية على مياه البحر المتوسط (من جنوية وبيزية والبندقية وكاتلان)، تذهب ملأى بالحجاج وتعود من الشرق ملأى ببضائع الشرق من فلفل وبخور وأفاوية ونسيج وزجاج .. صارت سيدة البحر العربي بعد أن انهزمت القوى العربية الإسلامية في الأندلس، وتضاءلت أساطيلها، أو انقطعت أحياناً ما بين شمالي إفريقيا والمرافئ الإسبانية، وخرجت فرخشنيط وجبل القلال في جنوب فرنسا وجزر الباليار من السيطرة الإسلامية، فأين إذن الحج المقدس؟ وأين القبر المقدس نفسه، حين طرحت هذه الأساطيل نفسها بالصليبيات وبغزو الصليبين إلى القسطنطينية مرة وإلى مصر مرتين وإلى تونس أيضاً، فهل كانوا يحسبون أن القبر المقدس انتقل هناك؟ وفي الحركة الصهيونية، ألم يكن الحج والحج المسلح إلى حائط المبكى وبقايا الهيكل هما بدء الطريق إلى وعد بلفور ثم إلى أحداث 1948؟ ألم تكن العملية الاقتصادية الاجتماعية من تجارة وحلول للمشاكل العمالية والأطماع المادية وراء الهجرة الصهيونية ووراء أخذها الأرض واحتلالها النقب وتوسعها في المصانع والزراعات بعد أن تخاذلت القوى العربية سنة 1948 وما بعدها؟ أم أنهم يبحثون عن الهيكل في تونس أو عنتيبي أو حول المفاعل الذري ببغداد؟


هـ ضمن هذا الإطار الديني نفسه: يسمي الصليبيون أنفسهم في النصوص بفرسان المسيح "والشعب المقدس" و"شعب الرب" أليس يسمى الصهيونيون أنفسهم بشعب الله المختار، مقابل الغوييم الهائم الذين هم كل البشر الآخرين؟ وإذا قال البابا أوربان الثاني، وهو يعلن الصليبيات: حرروا هذه الأرض من الجنس الشرير .. فهذه الأرض التي يقول الكتاب المقدس إنها تفيض باللبن والعسل قد منحها الرب ملكاً للمؤمنين، أفلا يقول الصهيونيون بدورهم إنها ملكهم وعدهم الله بها من الفرات إلى النيل؟

 
و- وضمن الإطار الديني أيضاً، ألم تحاول البابوية، وهي الكاثوليكية الغربية، إبراز نفسها حامية لمسيحي الشرق المضطهدين؟ فماذا يقول اليهود الإشكنازيم (الغربيون) الواردين من روسيا ووسط أوروبا وألمانيا وفرنسا؟ أليسوا يجعلون أنفسهم حماة لليهود السفار أديم، يهود الشرق؟


ز- الطابع الديني استطاع أن يكون واضحاً في الأيام الأولى للصليبيات، لأنه كان الدافع المعلن، ولقد استطاع أن يغطي إلى فترة ما حقيقتها الاقتصادية- الاجتماعية، اختفى التجار وراء سواد المحاربين، وتوارى الإقطاعي بجشعه وراء الرهبان ورجال الكنيسة، لكن الأطماع في الأرض والقلاع والمدن والامتيازات التجارية كانت واضحة مسيطرة، وفيما نهب الجناح العسكري من نبلاء وفرسان: الأرض عماد الثروة والسلطة في المجتمع الإقطاعي الغربي، تقاسم التجار الغربيون الأسواق والامتيازات والأحياء والفنادق في المدن وحين دارت العجلة بالأحداث والناس، تكشف التناقض العجيب، وتجلى الإفلاس الإيديولوجي في الحملات التالية، وبلغ الذروة في الحملة الرابعة التي توجهت إلى القسطنطينية المسيحية تفتحها، ظهر أن البابوية والتجار الإيطاليين وإقطاعي أوروبا يستخدمون الدين سلاحاً سياسياً عسكرياً ضد المسلمين وضد بعضهم بعضا على السواء، ولو كان هذا "البعض" من أخلص المدافعين عن الكاثوليكية.


ج- إن كل الغطاء الديني للصليبيات يطير إذا استعرضنا الصليبيات الرسمية الثمانين فوجدنا أن ثلاثاً منها فقط توجهت إلى القدس، في حين توجهت الخمس الأخرى إلى أهداف أخرى فالثانية إلى دمشق، والرابعة إلى القسطنطينية، والخامسة والسابعة إلى مصر، والثامنة إلى تونس، لعلها كانت تفتش عن آثار المسيح هناك، وأما حملات القدس فقد احتلتها الحملة الأولى فقط وفشلت الثالثة في الوصول إليها، ووصلتها الحملة السادسة سلماً ومجاناً في حين كان البابا يستنزل على هذه الحملة اللعنات من الرب، ويرمي صاحبها بالحرمان.


ونعود إلى الصهيونية المعاصرة لنرى الصورة نفسها، وإن تكن متطورة على مقياس القرن العشرين: افتراس للأرض لا ينتهي، محاولات لربط العلائق التجارية بكل الموانئ، استخدام للإيديولوجية الدينية في التوسع العسكري، وإفلاس إيديولوجي يتجلى في حروب 1956و 1967و 1973، ويبلغ الإفلاس أوجه حين تكشف إسرائيل عن دورها الحقيقي في تونس، وفوق المفاعل الذري بالعراق، وفي حروبها في المنطقة، فإذا هي أجير أمريكي صغير، مجرد حاملة طائرات أمريكية تحمل قوى مرتزقة تموّن بالمعونات، وعملها الأساسي استنزاف قوى المنطقة ومراقبة الاتحاد السوفيتي.


هل انتهت المقارنة الدينية؟ لم تنته بعد، فثمة أيضاً الحديث عن الإرهابيين المدنيين أيضاً، عن مئير كاهانا وحزبه أغودات إسرائيل، وهن الحاخام شلوموغورين، والنائبة عئولة كوهين، وأركان مجلس الحاخامين، وأعضاء غوش أمونيم، وحركة هاتحيا، وغيرهم ممن ينفخون في الرماد التوراتي ويعميهم دخانه ومثاره، إن دور هؤلاء جميعاً هو الحفاظ على الحقد الديني في حالة الغليان ليصب الحساء ساخناً في الصحن الصهيوني- الأمريكي، مقابل هذه المؤسسات كان للصليبين أيضاً مؤسسات دينية- عسكرية مماثلة، وهكذا نقرأ عن الداويّة، وعن الاستبيارية، وهن مؤسسة النيوتون ... والمؤسسات الصليبية المشابهة في إسبانيا: فرسان القنطرة، وفرسان قلعة ترافاً، وفرسان القديس يوحنا (سانتياغو) .. والدور هو الدور نفسه: تأييد اعتداءات الدولة على الأرض والناس، ومسحها بالممحاة الدينية، وإيجاد أيد أخرى بجانبها تحول التوراة إلى سيوف أو قنابل، وشيء من عمى غير قليل! ترى هل يتضح، بعد هذا كله، أن السبب الحقيقي وراء الصليبيات أو وراء الصهيونيات ليس هو الدين ولكن الأطماع الدنيوية للمتاجرين بالدين؟

 
خامساً: ونعود إلى الصليبيات والصهيونيات لنرى أن المشروعين إنما قاما على الدعاية المكثفة وعلى استغلالها الأقصى، ولقد طافت تدعو إلى الصليبيات مجموعات شتى من القسس والرهبان والتجار والمتشردين، كان جيش الدعاة الذي لا ينقطع يطوف أوروبا قرى وجبالاً وعبر الأنهار وفي عتمة الكنائس والغابات ومداخن البيوت، منهم بطرس الراهب وسان برنارد وجوسياس (رئيس أساقفة صور) وهرقل (بطريك بيت المقدس)، بل قام الدعاة من الأطفال، وقامت حملات من الأطفال بعشرات الألوف زحفت تريد تخليص القبر المقدس ببراءتها وحدها ( ولو أنهم انتهوا بمساعي الصليبيين أنفسهم إلى أسواق النخاسة)، كانت الدعوة للصليبيات بضاعة رائجة، أليس هذا ما يفعله الكهنة والربانيون في كل كنيس، وما تقوم به الصحف الصهيونية منذ مائة سنة؟ وكما استغل الصهيونيون جهل العالم بالتاريخ وبالواقع الجغرافي ليحوروهما كما شاؤوا، ليلغوا آلاف السنين العربية من التاريخ في فلسطين، وليلغوا وجود الشعب الفلسطيني من الجغرافيا، وليجعلوا من البلد الصحراء فارغة، كذلك استغلت الدعاية الصليبية سدوف الجهل الأسود في تلك العصور، فجندت في ما سموه، بجهل الخيال المنتصر، كل القوى في اتجاهين:

1)      اتجاه يضع كل تراث الجهل والخرافة لدى الناس في خدمة الإيديولوجية المعلنة من الأساطير في السحر القديم، وجيوش الأشباح والموتى، والشياطين الشريرة والأشجار صانعة المعجزات، وقصص النجوم التي تتساقط من السماء، والشهب الملتهبة، ومعجزات الأطفال الذين يولدون بأطراف مضاعفة، والرعاة الذين يرون مدناً متألفة في السماء، والقسس الذين يشهدون سيفاً ضخماً تحمله الريح في الأفلاك، أو معركة بين فارسين يضرب أحدهما الآخر بصليب يرديه، وقصص النار والحساب والفردوس المقبل ونعيم الخلاص والغفران، بل وقصص الغنائم المنتظرة في الشرق الأسطوري، كل ذلك لإثارة حماسة الناس في الغرب حتى الحد الأقصى.

2)     اتجاه يوجه هذه الدعاية كلها ضد عدو "شيطاني" الملامح: فالرسول الأعظم في منظورهم "ساحر هدم الكنيسة في إفريقيا والشرق بالسحر والخديعة" وجعلوا من المسلمين وثنين وعباداً لمجموعة من الآلهة والأصنام، ومحمد هو الصنم الرئيسي، وهو كبير آلهة الشرقيين "السراسنة" تمثاله المصنوع من المواد النفيسة بالأحجام الهائلة منصوب في أصبهان أو مكة، يرافقه 700 من مريديه! غربيو القرون الوسطى صدقوا هذا كله، وصدقوا معه ما يترشح لهم عن المسلمين من أنشودة رولاند وأغاني الـ Gueste وروايات الحجاج الذين كانوا يعودون بالمبالغات والغرائب لإضفاء الأهمية على مغامراتهم ولإثارة الدهشة والإعجاب.

 

وقد ثبت أن أصحاب الإيديولوجية الصليبية استخدموا في الاتجاهين الكذب وتزوير الوثائق والمبالغات إضافة إلى قصص الأحلام المقدسة والرؤى العجائبية، وكان لهم من سذاجة الناس وجهلهم ما يطمئنهم إلى النتائج.
أليس هذا يا ترى ما فعلته الصهيونية في الاتجاهين: فمن جهة استغلت كل موروث الغربيين من الحقد على اليهود في صيغة "اللاسامية" لتضخيم الشعور بالاضطهاد لدى اليهود، ولدفعهم إلى التكتل حولها والهجرة إليها، فما زالت إلى اليوم تحاكم النازيين القدامى، وتتهم غيرهم، وتتقاضى من ألمانيا ثمن الجثث المحروقة في أوشويتز، وترفع العصا في وجه كل داعية إلى التعقل في الغرب باسم اللاسامية، وهكذا ضخمت الأساطير وصاغت الروايات وصنعت الأفلام وكتبت واستكتبت كل الأقلام المكنة وكررت مسكنة اليهود وعذاباتهم كل يوم في كل إذاعة مسموعة أو مرئية، إنهم المضطهدون الوحيدون في العالم، هكذا قال زارادشت!!
 

ومن الجهة الأخرى فمادام الناس يجهلون كل شيء عن فلسطين وتاريخها وناسها فلماذا لا تصوغ دعايتها في كل ذلك على ما تشتهي؟ سكانها العرب: تجاهلتهم أولاً بالإلغاء الكامل، ثم لحقتهم بالتهم حين ظهروا على سطح الأحداث فهم في أدبها "برابرة" أنذال، مخادعون، وأخيراً "إرهابيون" وعلى العالم كله أن لاحقهم بالرصاص والإبادة، ألم تستخدم الكذب الدائم والمبالغات والتشويه وتزوير الوثائق؟
 

أي فرق في النتيجة بين ذلك التضليل القروسطي وبين التضليل الصهيوني الأمريكي عن "قادة الإرهاب ومصاصي الدماء والقتلة العرب الفاسدين المفسدين في الأرض". الذين لا يهمهم في الحياة إلا القمار والقتل وجسد امرأة؟ أي فرق بين المهووس الصليبي القديم الذي جاء من أقصى الأرض يحارب "الشيطان" المسلم وبين مئير كاهانا الذي يقول:"كيف نضع أيدينا بأيدي الأيالسة؟"
 

أو أي فرق بين صورة "المسلم الوحش" في عيني الصليبي وصورة العربي التي ينشرها الصهيوني في العالم عن العرب:"صورة النخلة والجمل في صحراء ينبع فيها بئر النفط وأسنان العربي المكشر فوقها؟".
 

سادساً: وتدفق الصليبيون على الشرق سنة 490هـ وما بعدها (1096م وما بعدها) وحين احتلوا القدس سنة 492هـ/ 1099م ذهب الصريخ إلى خليفة بغداد: يهز منبر المسجد الجامع ويكسره، ولكن يشكو هجوم "الروم" البيزنطيين! كانوا يجهلون أن العدو هم الفرنجة، مضت سنوات قبل أن يتبينوا أنهم فرنجة وليسوا من الروم الذين اعتادت دول الإسلام سماع قعقعة السيوف معهم على الحدود كراً وفراً أربعمائة سنة، ودون طائل، لا أكثر من غزوات تنسحب بعد حين، أبداً ما انتهت يوماً إلى الاحتلال النهائي ولو هددت به.
 

الشاعر أبو المظفر الأبيوردي، على طريقة الشعراء الذين تنفجر قوافيهم اليوم في الفراغ، صاح في قصيدة طويلة:
وشر سلاح المرء دمع يفيضه
وكيف تنام العين ملء جفونها
وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم
تسومهم "الروم" الهوان وأنتم
وتلك حروب من يغب عن غمارها
إذا الحرب شبت نارها بالصوارم
على هفوات أيقظت كل نائم
ظهور المذاكى أو بطون القشاعم
تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
ليسلم يقرع بعدها سن نادم!
وغابت القصيدة والعشرات من أمثالها في المستنقع الكبير.
 

كانت قوى المنطقة تجهل من هو العدو الذي تحارب صحيح أن القدس السلجوقية بعيدة المرمى ولكن السيف الصليبي كان ثقيلاً جداً وقاطعاً جداً، ولم يعرفه المحاربون في المشرق من قبل وحين تبينوا الواقع كان الفرنجة قد استقروا.
 

أليس هذا هو جو المستنقع الأخرس الذي تعيشه القضية الفلسطينية اليوم، جو البكائيات دون دموع، والصياح في غرف كتيمة من البلور، في حين يقوم في القدس عجل ذهبي له خوار يأكل عيون الأطفال حتى في بيروت! ألسنا نقول تلك القصيدة الأولى اليوم ألف مرة وبألف لحن؟
 

على الجانب الفرنجي كان الأمر بالعكس، اعتبر الكثيرون في الغرب نصر الفرنجة نصراً للكتاب المقدس ونبوءاته، تماماً كما يعتبر ذلك الصهيونيون، وتشجع الكثيرون على أن يسلكوا سبيل الشرق حجاجاً، محاربين، تجاراً، باحثين عن الثروة، فهم على كل شراع، كلهم كان يعتبر الاحتلال الفرنجي نهائياً، والتوسع فيه أمراً مقضياً، الجيل الثاني من الصليبيين الذي نشأ في البلاد أخذ يكتب ما كتبه المؤرخ اللاتيني فولشير أوف شارتر:"فيم يتعجب المرء من أن الله يظهر المعجزات في السموات في حين أنه أتى بمعجزة على الأرض نفسها بتحويله الغربيين إلى شرقيين .. ومن كان من روما أمس فرنجياً من قبل قد أصبح جليلياً ومن أهل فلسطين أو من صور، نسينا أوطاننا الأصلية، وأولئك الذين كانوا من قبل أجانب قد أصبحوا أهالي البلد، ومن كانوا فقراء أصبحوا يمتلكون هنا ما لا يحصى، فلم يرجع المرء إلى الغرب بعد أن وجد الشرق صالحاً إلى هذا الحد؟ إن الله لا يريد لأولئك الذين حملوا الصليب (ونستطيع أن نضع بدل هذه الكلمة اليهود) أن يقاسوا حتى النهاية .. إن الله يرغب أن يغنينا لأننا من أعز أصفيائه". أليس هذا هو ما يكتبه اليوم بألف شكل ولسان كتاب الصهيونية؟ ونمضي مع المقارنة قدماً.
 

سابعاً: يطنب المؤرخون ويعيدون ويبدون في سبب النصر الصليبي الأول الذي بدأ عند إنطاكية سنة 1097م وانتهى باحتلال القدس سنة 1099، ويذكرون أن تمزق القوى في المنطقة هو الذي سمح للفرنجة بالنصر، ما في ذلك أي شك، وحين يكون رضوان صاحب حلب أخا لدقاق صاحب دمشق، ويكون في الوقت نفسه أعدى أعدائه، وحين يتصيد الفاطميون في مصر انشغال دقاق مع الصليبين في الشمال لينقضوا على القدس فيأخذوها، ويكون صاحب إنطاكية قيباً للسلطان علي صاحب حلب، وينفرد أمير شيرز بشيرز، وابن ملاعب بحمص، والقاضي ابن عمار بطرابلس، وبعضهم لبعض عدو، فماذا تنتظرون إلا انهيار الجميع قوى متفرقة أمام الموجة الغازية؟


ومن عجب أن تكون القوى التي تصدت للفرنجة في غزوتهم الأولى سبع قوى، وتكون الدول التي وقفت لموجة الاحتلال الإسرائيلي بدوره سبع دول، ولعلنا نتذكر هنا ذلك السائل الذي سأل: كيف تهزمون وأنتم سبع دول؟ فأجابه المجيب- لأننا سبع دول! على أن المؤرخين ينسون أن يضيفوا أن حائط الدم قام منذ اليوم الأول بين هذه القوى- على تفرقها- وبين الفرنجة، امتد كاللعنة الأبدية من إنطاكية إلى المعرّة، حتى وصل ساحة المسجد الأقصى حيث خاض الصليبيون في آلاف الجثث وسواقي الدماء! وقد ظل هذا الحائط يتكاثف على الدوام ويرعف على الدوام مع المعارك الدائمة، أضحى سوراً خانقاً حول الإمارات الفرنجية، أبداً ما صفا قلب أحد لها ولا نسي الدماء أحد، أليس حائط الدم نفسه يقوم اليوم حول المنطقة المحتلة؟ يحولها إلى "غيتو" كبير رغم الخروق التي فتحتها فيه بعض السياسة الخرقاء! الفيتو الصليبي انهزم في النهاية، أما الفيتو الصهيوني فهل تنجده يا ترى هذه الخروق؟


قوى المنطقة أقامت قاعدة المقاومة الصلبة للفرنجة فيها على النهب والعزل والتطويق، تماماً كما تطوق الكائنات الحية الأجسام الغريبة حتى تنفقئ كالدمامل، صحيح أن التجارات كانت تسير دون عائق، عابرة آمنة، ولكن صحيح أيضاً أن ذلك لم يؤد إلى أي تقارب فكري أو ثقافي أو "تطبيقي" مما يُطبعون من الطرفين، حتى الصهيونيون سجلوا أن الحوار بين الفرنجة وأهل البلاد كان "حوار الطرشان"، والعلاقة الوحيدة كانت علاقة المصلحة المادية المباشرة، ظلت الخلية الفرنجية المتوضعة على الساحل الشامي غريبة، في لسانها، في عقيدتها، في نظام حكمها الإقطاعي، في رجالها ونسائها، بل في عادات الطعام والشراب فيها، ربما كانت سياسة العزل متبادلة من الجانبين، لكن النفي الإسلامي للفرنجة كان هو الأول والأقوى والأصلب، لأنه الأقوى حضارياً والأعمق ألماً، كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ هو ضحكة استهزاء عريضة بكل حياة الفرنجة، تشبه الاحتقار، إلى أن جاء الوقت في حطين وما بعدها فإذا بالمحتلين الفرنجة قشرة تسقط وتزول كأن لم تكن! المحتلون الصهيونيون تنبهوا مبكرين إلى هذه الخطيئة الصليبية المميتة، أما ترون أن كل همهم كان، حتى قبل سنة 1948، أن يصبحوا جزءاً من المنطقة؟ أن ينتصروا على "لاءات" الخرطوم الثلاث، أن يمرروا، التطبيع؟ أن تعترف المنطقة بهم.


ثامناً: واعتمد الفرنجة في توطنهم على المعونات مما وراء البحر: الأسلحة، الرجال، الأموال، الطاقات البشرية كانت دوماً تأتيهم على الأشرعة، حتى الكهنة والنبلاء والتجار المدد البشري لم ينقطع، ومعظمه من الشباب المحاربين، أوروبا الغربية كلها كانت تصب في هذا المشروع ليعود عليها بالخيرات، ولينعم أصحاب النذور والهبات والتطوع بالفردوس الآخر! ريتشارد قلب الأسد بحث عمن يشتري منه لندن لينفق أموالها في الحرب ضد صلاح الدين، الأمراء والملوك كانوا يأتون بثرواتهم وثروات أتباعهم لينفقوا منها على الحرب، ولم تكن موارد أجزاء من الشام أو من مصر تكفي كما هي اليوم، حرب حاسمة أو ناجحة على الأقل ضد الجماعة المحتلة، إلى أن استطاعت إمبراطورية صلاح الدين أن تقيم التوازن في الموارد وبالتالي في القوى بينها وبين الفرنجة، ولم تكن هذه الموارد ضخمة على أي حال، بدليل أنها شحت بعد الفتوحات الأولى، وقصرّت عن إمداده في المراحل اللاحقة، وجفّ الذهب عنده، فلم يعد يضرب الدنانير ولكن الدراهم، وهو ما أبقى الصليبيين في صور ثم في عكا وفي الساحل مائة سنة أخرى.


ألستم ترون أننا، ونحن نتحدث عن الحروب الصليبية، إنما نتحدث أيضاً عن الحروب الصهيونية، وعن مليارات الدولارات التي تصب سنوياً في المشروع الصهيوني؟


ويبقى في هذا المجال أمر أخير لا بد من ذكره، هو التمويل اليهودي للصليبيات، يهود أوروبا ومن باب الربا، ساهموا في تمويل الصليبين، الأمراء والملوك، وبخاصة حين فترت الحماسة الصليبية الأولى، وفرضت ضريبة صلاح الدين في أوروبا لإيجاد الموارد التي شحت، كانوا يلجؤون إلى الاقتراض من المرابين اليهود، وكما غطى أغنياء اليهود في حروب سنة 1948 ثم سنة 1967 ثم 1973 ما تكبدته إسرائيليهم من نفقات، كان المرابون يغطون بعض تكاليف الصليبيات المتأخرة من الثالثة حتى الثامنة .. وحين فشلت الصليبيات الفشل النهائي، انصبت النقمة في أوروبا على اليهود! لا انتقاماً للفشل فقط، ولكن لأكل الديون أيضاً، وانضاف هذا السبب إلى السبب التاريخي القديم الذي يتهم اليهود بصلب المسيح ليشكلا معاً النواة الأولية للعزل اليهودي في أوروبا كلها.
 

تاسعاً: وقد قام المجتمع الفرنجي الخليط على طول الساحل الشامي، أسقف فرنسي معاصر للصليبيات يقول عن المجتمع الغربي إن "بيت الرب ذو جوانب ثلاثة، فبعض يصلي فيه، وبعض يحارب، وبعض يعمل". هذا المجتمع الغربي الإقطاعي نفسه هو الذي تشكل في الشام في ثالوث ضلعاه: الذين يحاربون والذين يصلون، وقاعدته الذين يعملون، بل كان المحاربون (النبلاء) والمصلون (الكهنة) جناحين عسكرياً ودينياً لطبقة واحدة تقود المشروع الصليبي.


أليس هذا يا ترى وضع الجماعات الصهيونية المحتلة، جماعة تحارب، وأخرى تهز أجسادها جيئة وذهاباً وراء التوراة، وجماعة ثالثة تعمل في الأرض والمصانع؟ قد يكون الفرق في وجود طبقة رأسمالية إضافية في المجتمع الصهيوني الحديث، ولكن أليست هذه الطبقة امتداداً للطبقة الغربية نفسها والجزء المكمل بها والإفزاز الطبيعي للتطور الغربي الحديث نفسه؟


وكما بقيت في فلسطين تحت الاحتلال قوى عربية واسعة، تتمسك بالأرض والزيتون ومزراب العين، كذلك بقيت تحت الحكم الفرنجي طبقة عربية مسلمة تملأ الريف الفلسطيني يستثمر جهدها الرجل الفرنجي (كما يستثمرها اليوم الرجل الصهيوني) تحت رقابة الفرنجة، ولا تستطيع حتى الهرب من القرى، وكما للعرب اليوم مقاومتهم وتحركاتهم الجماعية والفردية ضد المحتلين، كذلك كانت لأجدادهم الأولين في تلك الأرض مقاومتهم الرافضة، في نابلس والناصرة كانوا يحتالون لها على الحجاج العابرين فيقتلونهم ويقطعون الطرق، ويتركون العمل بحجة الصلاة، فمن أعجزه الأمر هرب مهاجراً، ونواة حي الصالحية في دمشق إحدى نتائج الهجرة من "جماعيل" إحدى قرى نابلس أواسط القرن الثاني عشر، في أوج القوة الصليبية.


وإننا لنستطيع أن نرى التشابك الفرنجي الصهيوني على مستوى آخر: فطبقة العاملين، في القطاع، في الأيام الفرنجية كانت تتشكل من المسلمين ومن أفراد الطوائف المسيحية غير الغربية، ومن فقراء الغرب في حين يحتكر النبلاء والكهنة السيف والكتاب المقدس، أليس هذا هو الوضع الصهيوني الذي يعمل فيه، في القطاع، العرب واليهود الشرقيون وفقراء المهاجرين؟ في حين ينعم أمراء الإشكنازيم بالحكم وقيادة الجيوش وتفسير التلمود؟
ونتابع المضي مع المقارنات أيضاً ما أشبه الليلة بالبارحة.


عاشراً: اعتمد الفرنجة السابقون والصهيونيون اللاحقون على السواء أسلوباً واحداً في التشبث بالأرض وفي التوسع عند الإمكان، القلاع التي نثرها الفرنجة على جميع المعابر إلى المنطقة المحتلة قابلها الصهيونيون بقلاع عسكرية من مثلها ترونها في أنواع المستعمرات التي زرعوها على طول الحدود وفي داخل البلاد وكل منها مسلحة كاملة، وكما كان المحاربون القدماء يعيشون على أراضي الزراعة حولهم، يعيش المحتلون الجدد محاربين مزارعين في المستعمرات الجديدة، وكما كانت القلاع الفرنجية في القديم تتوزع بين منظمات الداوية والاسبتارية والملك والإقطاعيين نجد المستعمرات الصهيونية موزعة بين الأحزاب والمنظمات الإرهابية.


حادي عشر: منذ الأيام الأولى للتوضع الصليبي في القدس، لم تكن الموانئ الشامية وحدها هي الهدف، بلى! كانوا يحتلونها واحداً بعد الآخر، الأساطيل التجارية الإيطالية وضعت كل ثقلها لاحتلالها، لكن عينها وعين مملكة القدس الصليبية معها كانتا على مصر وعلى "العقبة" مصبي طرق التجارة العالمية إلى المتوسط، حاولوا احتلال مصر مرات حتى سبقهم إليها نور الدين وصلاح الدين، بنوا قلعتين في الطريق إلى أيلة بشرقي الأردن، بنوا قلعة في جزيرة فرعون بخليج العقبة بالقرب منها، أقاموا إمارة في الكرك تسلمها قبيل حطين فارس من أعتى فرسانهم: أرناط المعروف الذي حاول بمشاريعه البحرية السيطرة على البحر الأحمر حتى عدن، كما حاول الوصول إلى المدينة وكان من الأسباب المباشرة لموقعة حطين، والسبب؟ السبب ليس حب الصحراء ولا الماء، ولكنه الدور الاستراتيجي والتجاري، كانت طرق التجارة العالمية بين الشرق البعيد، طرق الأفاويه والتوابل والبخور والنسج، تمر من هذه المنافذ، وما جاء بهم إلى الشرق الأدنى إلا الطمع بهذه المنافذ وتجاراتها، وحين انقطع الطريق البري بظهور المغول عليه في القرن الثالث عشر، وفقدوا السيطرة على القدس والمناطق في شرقها، وصارت مصر هي الطريق التجاري الأكبر توجهت الحملات إليها، وإلى دمياط الثغر الأول بالذات، الحملتان الخامسة والسابعة توجهتا إليها، وفشلت الحملتان، هل يذكرنا هذا بقتل الكونت برنادوت الوسيط الدولي بأيدي الصهاينة لكي يتوسعوا في النقب، وبإصرار بن غوريون على احتلال أيلة بأسرع وقت سنة 1948، أو بما أعقب ذلك من أحداث حول خليج العقبة البحر الأحمر حتى مشكلة طابا اليوم والجزر في مدخل خليج العقبة؟ وهل يكشف هذا نفسه لأعيننا عن معنى محاولات إسرائيل النفوذ من البحر الأحمر إلى ما وراءه لتكون مثلها مثل مصر المطلة على البحرين الأبيض والأحمر؟ وله يكشف ذلك دورها التجاري والاستراتيجي؟

 
ثاني عشر: حرص الفرنجة الصليبيون منذ أيامهم الأولى حتى أيامهم الأخيرة على إبقاء التمزق السياسي قائماً في المنطقة، كان كنزهم الثمين، وحرصوا أكثر من هذا على عقد هدنة مع كل طرف على حدة: مع إمارة دمشق، مع إمارة حلب، مع أمراء الجزيرة، مع مصر التي ظلت تحتفظ بعسقلان في أقصى الجنوب الفلسطيني خمسين سنة تماماً كما احتفظت مصر في العصر الحاضر بقطاع غزة، البند الأساسي في هذه الهدنات: فتح طرق التجارة والسبل الآمنة، هل يذكرنا هذا بشعار "التطبيع" اليوم؟ وبما تحاوله السلطات الصهيونية من العلاقات مع مصر؟ ومع غير مصر؟ الفرنجة في القديم كانوا كذلك يفعلون، ينفردون بالإمارات في المنطقة، يضربونها الواحدة بعد الأخرى ضربات خاطفة صاعقة، أو يهادنونها واحدة واحدة! كانوا يعرفون أن في لقائها بعضها مع بعض نهاية المشروع المهووس، يخشون هذا اللقاء خشيتهم للموت لأنه الموت! ألم يكن ذلك في حطين؟ ألسنا نرى استماتة إسرائيل منذ بن غوريون وشاريت إلى بيريز وشامير في المطالبة بالمفاوضات الفردية والمباشرة؟ ورعبها من أي لقاء بين دولتين، لقد جرت بعض هذه اللقاءات في القديم، أمير الموصل مودود اتفق مع أمير دمشق طفتكين وواقعا الفرنجة، فكانت لحظة من أخطر لحظات المملكة الصليبية، وأمير دمشق اتفق مع أمير حلب، على بينهما من تباين، فتمكنت الإمارتان من الوقوف يومذاك، وحارب معها أمام غزة، كما دافع عن ثغرها (صور) بجنده وماله، لكنها كانت اتفاقات عابرة غير واعية، ألا تذكرنا هذه المحاولات بمحاولات الوحدة بين سورية ومصر، أو بين سورية والدول العربية الأخرى؟


وكان أقصى ما تتمناه مملكة القدس أن تعقد الصلة مع إمارات الشام ودمشق بالذات، لقد أفشلت الحملة الصليبية الثانية كلها لتبقى لها دمشق التي كانت تهادنها، وعقدت معها حلفاً منفرداً استمر قرابة اثنتي عشر سنة هو "كامب ديفيد" الزمن القديم الذي أنهاه نور الدين محمود بتحرير دمشق من الأمير المتحالف، لقد ظلت مملكة القدس تلعب على حبال التفرقة، حتى سقطت بين الحبال!


ثالث عشر: أضاع العرب المسلمون، أيام الفرنجة، فرصاً ذهبية لإنهاء الوجود الاحتلالي الفرنجي، ارتسمت حطين عشرات المرات في الأفق قبل حطين بزمن طويل، قصر النظر السياسي وحده هو المسؤول عن عدم اغتنامها، السنوات التسعون التي انقضت بين سنتي 492هـ (سنة الاحتلال) وسنة 583هـ (سنة التحرير) شهدت مئات المعارك كما شهدتها مثلها مائة سنة أخرى من بعد، وبعضها في عنف حطين ونصرها الحاسم، أولى هذه الفرص كانت أمام إنطاكية عشية وصول الفرنجة إلى الشام، دخلوا أنطاكية الفارغة من المؤن وهم حوالي مائة ألف، وبعد ثلاثة أيام فاجأهم الحصار الإسلامي بستة جيوش فدب فيهم الجوع حتى أكلوا النعال والجلود وعشب الأرض، وبادر الكثير منهم بالهرب، حتى الداعية بطرس الراهب! ثم خرجوا بهجمة واحدة يائسة، فلم يحاربهم أحد من الجيوش المتربصة حولهم واكتفوا بالفرار، كانت هذه المعركة هي التي أدت إلى التوطد الصليبي وإلى احتلال القدس! هل يذكركم هذا بحرب سنة 1948؟


وبعد أشهر من الاحتلال والمذابح، تحمل الفرنجة عائدين إلى بلادهم، لقد أدوا مهمتهم، لم يبق في فلسطين كلها سوى ثلاثمائة فارس وألفي محارب، ولم تستفد من هذه الفرصة مصر، وكانت تستطيع أن تسوق فيما يذكرون ثلاثين أو خمسين ألف فارس، ولم تستعملها دمشق وكان لديها عشرة آلاف فارس، كل ما صنعه طفتكين أتابك دمشق أنه ذهب في كواكب من فرسانه إلى طبرية فأخذ منها مصحف عثمان فدخل به دمشق في موكب حافل وأغلق الأبواب!


ومرت فرص بعد فرص من هذه اللحظات الحرجة أضاعها المصريون، كان أخطرها حلمة مايو/أيار سنة 1102م التي سحق فيها الفرنجة عند الرملة فاختفى ملك الفرنجة الهارب في أجمة قصب أحرقها المسلمون فلحقته النيران، والقدس فارغة دون حامية، ولكن النجدات الغربية التي وصلت على المراكب قلبت الميزان، هل تذكرون قصة حرب 1973 والجسر الجوي الأمريكي وثغرة الدفرسوار؟.


أخطر تلك الفرص كانت معركة الأقحوانة عند طبرية سنة 507هـ/1113م، أربع عشرة سنة بعد الاحتلال، التقى جيشا دمشق والموصل مع الجيوش الفرنجية قرب حطين، وتراءت حطين نفسها في المعركة، بحيرة طبرية اختلط فيها الماء بالدم حتى امتنع الشرب منها أياماً، وحشر الجيش الفرنجي محاصراً مهزوماً في الجبال شهرين بجرحاه وأثقاله لا يجرؤ على الحركة، لم يكن في كل مملكة فلسطين من حامية، ووصلت طلائع الجيش الإسلامي حتى مشارف القدس، ودانت لهم البلاد بالطاعة، ثم خشي أمير دمشق أن يختطف منه أمير الموصل إمارة دمشق فأقنعه بالعودة واستئناف القتال في الربيع القادم، ولم يأت هذا الربيع أبداً لأن الأمير الموصلي قتل.


أخطرها في هذه الفرص القديمة الضائعة أن الثمن الذي كان سيدفع فيما بعد كان دوماً أغلى فأغلى، أليس هذا هو قدرنا اليوم مع الاحتلال الصهيوني: الفرص دوماً تضيع والثمن دوماً يرتفع؟


رابع عشر: المقاومة الإسلامية للفرنجة لم تتبلور التبلور السريع لأسباب عديدة، كانت تتصاعد حالاً على حال مع ازدياد اندماج المنطقة ووعيها للكارثة، المعارك التي استمرت تسعين سنة أفرزت الكثير من البطولات كما سفحت على التراب الكثير من الشرايين، في حين كان الحزن يعشش أكثر فأكثر في الصخور والعيون، من هذا الصمود صاغت المنطقة عشرات الرجال، وكان لكل منهم "حطينه" على مقداره، كل منهم ضرب سيفاً في حطين المقبلة ولو لم يحضرها: كربوغاً، جكرمش، جاولي، مردود، أقسنقر البرسقي من الموصل، سقمان بن أرتق، إيلغازي أخوه، برسق، نجم الدين ألبي من الجزيرة، طفتكين، إسماعيل بن بوري، أتر من دمشق، علي كوجك، مظفر الدين كوكبوري من إربل، الأفضل الجمالي، إبنه شرف المعالي، الوزير المأمون، رضوان الولخشي من مصر .. هي أسماء كثيرة لا يذكرها أحد، ولكنهم كانوا الشرط الأساسي لظهور صلاح الدين، لقد كانوا ربيع السيوف الذي برز منه عماد الدين زنكي، ثم نور الدين ثم صلاح الدين، وإذا كان صلاح الدين وحده يخرج من الأسطر ويفرض نفسه على الذاكرة والتاريخ فإنه، بكل تأكيد، لم يخرج وحده من عتمة الإنهزامية والسكون، ما كان ممكناً أن يخرج لو لا "صلاح الدينون" الآخرون الذين سبقوه، كان لا بد أن يوجد السابقون الذين انطفؤوا في مستنقع السلبية والتمزق، ليوجد صلاح الدين من بعدهم محرراً أخيراً، أليس في سجل الصمود اليوم عشرات الأسماء التي تسجل في انتظار حطين المقبلة؟


خامس عشر: كانت عملية تحرير فلسطين من الفرنجة من عمل مصر والشام بالذات، وكان شمال العراق هو العمق الاستراتيجي للعملية، ويبدو أن المنطق الجيو- بوليتكي لا يزال قائماً ولا تزال عملية التحرير من مهمات هذه المنطقة بالذات قبل غيرها، وإن كان منطق العصر لا يكتفي بها ويدخل في التحرير ما لا ينتهي من العناصر الأخرى، على أنك تستطيع أن تفهم لماذا ارتجفت أركان إسرائيل والدول التي تستخدمها للوحدة التي قامت سنة 1958 بين مصر وسورية، لقد رأت فيها- كما ظلت ترى في كل مشروع وحدوي- بداية النهاية، إنها إنما تقوم على تمزق المنطقة وفتاتها، الضباع لا تعيش إلى على الجيف، وهي تفهم هذا الدرس جيداً، بقي أن نعي نحن بدورنا هذا الدرس.


سادس عشر: وأخيراً كانت حطين، لكنها لم تكن إلا بعد أن وجدت عاصمة ومركزاً ديناميكياً لها في دمشق، وقيادة واعية ملهمة، وقوة موحدة ساحقة، وعمقاً استراتيجياً وراءها، وموارد تدفع ثمن الدماء وإعداد سياسياً طويلاً مضنيا، ولن تكون حطين الأخرى إلا إن وجدت مثيل كل ذلك وعلى مقياس العصر هو العنصر الحاسم.
ونصل بعد إلى المحاور الأساسية وإلى تطبيقاتها في سياسة الصليبيين في المنطقة وفي سياسة الصهيونيين، كان الصليبيون يدركون، وهم يتجهون إلى الشرق أمرين أساسيين:
 

1)     يدركون وحدة العدو العربي المسلم ما بين الأندلس إلى المشرق الكثيرون ممن شاركوا في الحملة الأولى كانوا من قبل يقاتلون في جبهة إسبانيا ضد المسلمين، واستمر الأمر على ذلك من بعد.

2)     ويدركون أن موانئ الشرق الغنية هي مصب التجارات القادمة من المحيط الهندي وما وراءه، الأساطيل الإيطالية كانت قبل ذلك بكثير تقوم على هذه التجارات في البحر المتوسط واستمرت هذه الأساطيل سيدة هذا البحر من بعد.

 

وهكذا كانت استراتيجية الصليبين تقوم على الأمرين معاً:
 

1)     ضرب العالم العربي الإسلامي في وسطه تماماً بجانب ضربه في الأندلس وشمال إفريقيا وصقلية، لينقطع اتصال الكتلة الغربية الإسلامية بعضها مع بعض.

2)      استثمار الموقع الاستراتيجي لفلسطين حتى الحد الأقصى تجارة ودوراً، والتحكم في عقدة الاتصال الأساسية في التجارة الدولية فيها، ولما كانت مصر تشارك فلسطين الموقع الاستراتيجي فقد كان هم الصليبيين موجهاً إلى مصر دوماً لفصلها عما حولها أو أخذها، يوم وصلت الحملة الأولى الرملة سنة 1099 وقبل أن تحتل القدس أخذوا يتشاورون في متابعة المسير إلى مصر! وظلوا بعد ذلك على مهاجمتها دون انقطاع، وحاولوا أخذها أيام نور الدين، وتوجهت إليها الحملتان الخامسة والسابعة بعد ذلك.

 

هذه الاستراتيجية مرت خلال العهد الصليبي بمرحلتين: في المرحلة الأولى التي امتدت حوالي نصف قرن: كانت المملكة الصليبية والإمارات التابعة لها تعمل لحسابها في عملية استعمارية مبكرة، وكان لها سند قريب قلق في بيزنطة وسند عريض بعيد في دول الغرب، في المرحلة التالية: وبعد أن أدركت الحركة الفرنجية عجزها عن ابتلاع المشرق بكتلتها المحدودة، باعت نفسها لبيزنطة طلباً للمعونة المباشرة أيام نور الدين وأوائل أيام صلاح الدين، وقبل أن تقع حطين كانت قد باعت نفسها لمن يشتري في الغرب، كانوا يفتشون عن ملك، أي ملك، رموا هزيمة حطين على رأس الملك (غي) النبيل الفرنسي الذي اتفق أن قاد الجمع الصليبي ضد صلاح الدين، ثم بعد أن تضاءل المشروع الصليبي إلى مجرد شقة ساحلية بين صور ويافا أخذوا يبحثون له عن منقذ يعينه: فيليب أوغوست أو ريتشارد قلب الأسد، ثم جاءت أيام الحملة الخامسة فتحكم في المشروع ملك هنغاريا أولاً وفشل، ثم قاده الكاردينال بلاجيوس مندوب البابا سنة 1218- 1229م فغرق به في وحول الدلتا وبعد دمياط، ثم تولاه فريدريك الثاني صاحب صقلية فكانت مملكة القدس مجرد ملحق إضافي لمملكة الإمبراطوري، وجاء لويس التاسع بالحملة السابعة وقاد المشروع مرة أخرى إلى دمياط، وأغرقه مرة أخرى في مياه النيل عند المنصورة.
 

لو أغمضنا الأعين لحظات، نتأمل في كل هذا الذي مضى من تاريخ الصليبيات، استراتيجية ومراحل، واستبدلنا بكلمة الفرنجة كلمة الصهيونية فهل يختلف الأمر؟ تجاوزوا القرون الثمانية التي مرت، وضعوا مكان بيزنطة والغرب في المرحلة الأولى بريطانيا وفرنسا وألمانيا والدول الأخرى حتى حرب 1967، وضعوا اسم الولايات المتحدة في المرحلة الثانية بعد تلك الحرب، وراقبوا الذيلية الصهيونية للاستراتيجية الأمريكية منذ ذلك الوقت إلى اليوم، أليس تنبئ مطالع الخط بنهاية المصير؟
 

لقد كانت إسرائيل في الجيو- استراتيجية البريطانية إسفين التحطيم للكتلة العربية، وعقدة الطريق إلى الهند، ولهذا خلقت في مكانها، فلما ثبت التمزيق للبلاد العربية، وأقيمت الحدود والدول المنعزلة، واستقلت الهند، انتقلت إلى الجيو استراتيجية الأمريكية لتصبح جزءاً من الحزام الأمني الاستراتيجي ضد الاتحاد السوفيتي، ووسيلة للإبقاء على التخلف العربي، وضاعت فلسطين بين أرجل الاستراتيجيتين، كما ضاعت من قبل أيام الصليبيات، وإلا فاسألوا إذن أنفسكم عن إسرائيل، هذا الحائط اللاهوتي الذي انتصب على العدوة- المفصل لتمارس الأمة العربية الموت على طرفيه، وليعزل مصر عن الوطن العربي بين اللاهوت اليهودي من جهة وبين بحار الماء والصحراء من جهة أخرى، ترى ما دوره في استراتيجيات الدول الكبرى؟ ولماذا تحقنه أمريكا كل سنة بنصف مساعداتها للعالم وهو في شبرين من الأرض وفي ملايين قليلة معدودة من البشر؟ إن الولايات المتحدة تحاول أن تجعل الجغرافيا الصغيرة تقوم بدور الدول الكبرى وتحقنها بالسلاح والمال حقناً في حين تعكف الجماعة المحتلة على اختراع التاريخ واللاهوت والمرتزقة.
 

وأخيراً هل يعني هذا الذي سلف كله أن لا جديد تحت الشمس؟ وأن التاريخ يعيد نفسه بنفسه؟ وأن حطين ذاتها قادمة في حطين أخرى مماثلة؟ لست أعني هذا أبداً ولا أعتقده، ثم كل يوم جديد تحت الشمس، وحذار أن ننظر إلى حطين من خلال الماضي، إنها لن تكون إلا من خلال المستقبل وأهوال المستقبل، حذار أن نطلب منها أكثر من أن تكون ملهمة بدورسها والمعاني لأنها لن تتكرر إلا بهذه الدروس والمعاني، إن التاريخ أعجز وأعظم من أن يعيد نفسه، وأنا أعرف أن الدنيا الدولية كبرت جداً وتعقدت مصالحها المشتبكة، وأن الأسلحة اختلفت حتى جهنم الذرة وعدميات الفضاء، وأن الأفكار والإيديولوجيات تطورت فما تلمها الخطوط والرؤوس، وأن حطين المقبلة سوف تكبر بهذا المقدار نفسه لتكون نصراً! لقد تكون قطعة من جهنم أو أشد عذاباً، ولقد لا تكون حطين واحدة حاسمة، ولكن سلسلة حطينات، ولقد تدخل تيه التعقيد الدولي فلا تكون بيننا وبين الصهيونية فحسب ولكن مع القوى التي توظفها أيضاً، ولقد لا تكون في ذلك المثلث المقدس من تراب اليرموك- حطين- عين جالوت، ولقد تلعب بها التكنولوجيا الحديثة لعباً ما عرفه العالم قط من قبل، ولقد تختلط فيها الرؤى فما "يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر".
 

وإذا احتاجت حطين الأولى إلى صلاح الدين وصحبه، يعدون لها ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل، ومن الإعداد الدولي، والدبلوماسي، ومن الموارد الاقتصادية ومن الخطط التكتيكية، ويخوضون المعركة سنبابك تقدح الشرور، وأشلاء ممزقة على الوديان، ونيراناً تحصد الوجوه، وسيوفاً تبصق الدماء، إلا أن كل ذلك ليس أكثر من لعبة أطفال أمام ما يجب لحطين المقبلة التي لا بد فيها من حرّاقة هوقل الأسطورية وهو يحارب الهيدار الأفعوان ذا الرؤوس السبعة الذي كلما قطع له رأس نبتت منه سبعة رؤوس فلا بد من حريق كل رأس حتى الجذور.
أعرف كل هذا الرعب المنتظر، وأعرف أبعاده المأساوية، ولكني إنما أفسر اهتمام الصهيونية بالصليبيات ودوافع هذا الاهتمام خارج إطار العلم والعلماء لأصل إلى معرفة السر وراء احتفال إسرائيل أيضاً بحطين.
 

إن حطين كانت معركة النهاية كما كانت معركة البداية، ومن خلال حطين تريد إسرائيل أن تفتح لنفسها ثقباً من ثقوب الشرعية، إنها تموت رعباً من التاريخ الذي ينذرها، ولو أنها تبني كيانها كله عليه، تخشى أي مناقضة تاريخية لئلا ينهار البناء كله، وهي تعرف أن الناس يلتهمون الطعم إن كان تاريخياً كما يلتهمون الفاكهة النادرة، مساحات الغبار التي تفصل بينهم وبين التاريخ تدفعهم إلى تصديق كل أسطورة، وإسرائيل تريد أن تخرق جدار العهد الإسلامي في فلسطين في أروع لحظاته بأسطورة تاريخية جديدة تصادر على المطلوب، وإذا كان العالم كله يرى في فلسطين نصراً لصلاح الدين فإن إسرائيل تريد أن تجير هذا النصر لليهود، تريد أن تطبع قبلة يهودية على جبين صلاح الدين، قد يكون من المضحك حتى القرف أن تسوق إسرائيل أسطورة تقول إن صلاح الدين كان عميلاً يهودياً، وما صنع حطين وفتح فلسطين إلا ليقدم القدس على طبق من فضة لليهود، مع ذلك سوف تسمعون هذا، وسوف يطلبون له بوسائل الإعلام معتمدين على تزييف بن غوريون.
 

بلى! يهودا الحريزي الشاعر الأديب اليهودي الذي زار القدس حوالي سنة 1216م، أي بعد ثلاثين سنة تقريباً من حطين كتب في مذكراته التي نقل عنها المؤلف اليهودي مان "لو تساءلنا عن السبب في منع الصليبيين المسيحيين لليهود من البقاء في فلسطين لسمعناهم يقولون بأننا المستببون في قتل إلههم ولذلك أنذرونا بأنهم سيأكلوننا أحياء .. لكن الله أرسل الملك العادل صلاح الدين وزوده بالحكمة والشجاعة وحاصر القدس: فأسقط الله بعونه المدينة في يده، وعندما أرسل السلطان منادياً ينادي في أرجاء البلاد بأن يعود كل أبناء إبراهيم إلى القدس من العراق ومصر ومن كل البلاد التي لجأوا إليها، ذكر خبر آخر، يهودي بدوره: أن ثلاثمائة من يهود الغرب وصلوا سنة 1211م إلى فلسطين ومعهم الربانيون بن شمشون والإشكنازي واللونلي، فلم يجدوا سوى عشرة من اليهود معهم يصلون على جبل الزيتون، والتقط هذه الجمل عدد من كتاب اليهود وتبعهم بعض العرب ليعتبروا ذلك من بعض التاريخ، غير أن أكثر الجميع كذباً كان بن غوريون، لقد حور هذه الكلمات فكتب:"أصدر صلاح الدين نداء غداة فتحه القدس يحث في اليهود الفارين من حكم الصليبيين صغاراً وكباراً على أن يعودوا إلى القدس، وفي خلال سنوات قليلة من حكم هذا السلطان العادل أعيد تجمع اليهود في القدس، ووفد اليهود عليها من كل صوب، ولقد عاد مع هؤلاء العائدين عدد من كبار علماء اليهود ورابانييهم، منهم ثلاثمائة من فرنسا وإنجلترا وإسبانيا وسكنوا المدينة.
 

ولقد ذكر مؤرخ يهودي أن الملك العادل أخا صلاح الدين استقبل سنة 1211 هؤلاء العلماء الثلاثمائة استقبالاً طيباً، وسمح لهم ببناء مدارس ودور عبادة يهودية، وكان على رأسهم الرابي شمشون بن إبراهيم الشنازي والرابي يوناتان الونلي، ولقد استمرت هجرة العلماء اليهود الغربيين إلى القدس وفلسطين طول عهد صلاح الدين وعهد أسرته من بعده (بن غوريون، اليهود في أرضهم، ص 217- 218).
 

الهوس البن غوريوني زيّف النص ونفخ فيه حتى صار بالوناً ضخماً، إن معلمه غوبلز هو الذي قال: أكذب أكذب دائماً فلا بد أن يبقى من كذبك في النهاية شيء، وهكذا زيّف بن غوريون النص والتاريخ في عدد من النقاط ومد لسانه للجميع: زيفه في قوله:"يحث اليهود صغاراً وكباراًَ على أن يعودوا إلى القدس وفي سنوات قليلة أعيد تجمع اليهود في تجمع اليهود في القدس ووفدوا عليها من كل صوب، ولم يكن شيء من ذلك، ولا كان لليهود تجمع في القدس ليعودوا، ولم يذكر أحد من المؤرخين أن صلاح الدين بعث المنادين، إضافة إلى أن "أبناء إبراهيم" إنما يستعملها اليهود للدلالة على جميع أبنائه من سارة وهاجر، من عرب ويهود، وأضاف بن غوريون زيفاَ آخر في قوله: إن 300 من علماء اليهود بدلاً من 300 من اليهود وإنهم من فرنسا وإنكلترا وإسبانيا، وهم من إسبانيا فقط ممن طردهم الإسبان عند نشأة محاكم التفتيش كما طردوا غيرهم، فاسما الربانيين اللذين كانا بينهم هما شمشون بن إبراهيم الإشكنازي وهو اسم عربي إسباني، ويونان اللونلي من بلده لونة في الأندلس، وكانت البلاد الإسلامية كلها مفتوحة لليهود السفار أديم قبل حطين وبعدها، لا في القدس وحدها، فمنهم آلاف يتوزعون ويتنتقلون في كل من بغداد والبصرة ونيسابور وتبريز والموصل وحلب ودمشق والقاهرة والإسكندرية والقيروان وفاس وقرطبة وغرناطة وطليطلة. ويضحكنا قوله: استمرت هجرة العلماء اليهود طوال عهد صلاح الدين وأسرته إلى القدس بالذات، ولو كان هذا حقاً فلماذا لم يوجد سوى عشرة يهود في القدس بعد حطين بثلاثين سنة يستقبلون وفد اليهود الثلاثمائة.
 

ولو كان هذا حقاً لما دفن كبير فلاسفتهم ورئيس جالوتهم ابن ميمون في طبرية، ولكن في القدس عند بقايا الهيكل، ولو كان حقاً لذكر ذلك الذاكرون، ومصادر العهدين الأيوبي والمملوكي بما فيها أقوال الرحالة اليهود مجمعة على أنهم لم يجاوزوا في القدس في أحسن أحوالهم بضع عشرات أو بضع مئات حسب العصور والأحوال، وكان وجودهم ينعدم تماماً في القدس في بعض الفترات ويكمل تزييف بن غوريون في قوله:"بناء مدارس ودور عبادة يهودية" وإنما سمح لهم بكنيس فيه مدرسة هو معبد ناحوم، وسمح للمسيحيين- وهم الأعداء يومذاك- بأمثال ذلك.
 

إن عباقرة الإعلام الصهيوني سوف يحاولون أن يلبسوا صلاح الدين الطاقية اليهودية ويدوروا به على بوابات العالم باعتباره خادماً من خدمهم بدوره، وكما كان بإمكانهم أن يسرقوا مختلف الأساطير من قبل: أسطورة أرضهم من الفرات إلى النيل، وأسطورة أرض الميعاد، أسطورة الديمقراطية الفريدة، وأسطورة الملايين الستة التي أحرقها هتلر، وأسطورة الدولة المسكينة المهددة بالذبح، وأسطورة الإرهاب العربي .. فإنهم يريدون أن يركبوا اكتاف صلاح الدين ليسرقوا باسمه اعترافاً به المنادون: أن القدس لليهود.
 

ونعود إلى التشابه بين المشروعين الصليبي والصهيوني، التشابه الذي ليس ينقصه إلا كلمة الختام: حطين ولتكن حطين حلماً، إن المشاريع الإنسانية الكبرى إنما بدأت أحلاماً وليكن الطريق إلى حطين مفروشاً بعذاب جهنم، فلا خيار لنا في عدم سلوك الطريق. "كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم". أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين".
 

ـــــــــــ
*مجلة شؤون عربية/ فصلية فكرية - العدد 52 كانون أول/ديسمبر - 1987م/ربيع الثاني 1408هـ - تصدر عن جامعة الدول العربية - رئيس التحرير هيثم الكيلاني
**أستاذ التاريخ بجامعة الكويت

 

مقدمة

      قصة المسجد الأقصى عبر العصور

9 مراحل تاريخية

بين صعود وهبوط من التأسيس وحتى التحرير القادم بإذن الله

 

1

البناء الأول

من عهد آدم عليه السلام - إلى حوالي عام 1550 ق.م

 

  3

فتح داوود عليه السلام

من حوالي 1000ق.م- حوالي 920ق.م

  5

الفتح العربي الإسلامي الأول

 

7

الفتح الإسلامي الثاني

 

  9

الفتح  القادم بإذن الله

       

   

     
  2

العلو الفرعوني وتسلط الجبارين

من حوالي 1550 ق.م - حوالي 1000 ق.م

 

  4

تكالب أمم كافرة قبل البعثة الخاتمة

من حوالي سنة 923 ق.م -  حوالي سنة 623م

  6

احتلال الفرنج لبيت المقدس

  8

العلو الصهيوني

 

 

::مقدمة:: 

ارتبط تاريخ بيت المقدس (المسجد الأقصى المبارك وما حوله) دوما بالصراع بين الحق والباطل. فهو صراع عقدي، في قديمه وحديثه ومعاصره، ولم يكن أبدا مجرد صراع عرقي أو حتى ديني. لقد ارتبطت هذه المنطقة المباركة بالأنبياء وبمنهج الله تعالى الذي حملوه إلى البشر، ومتى صحّ الناس، أيا كان جنسهم، أو شرعهم، أو ديانتهم، على هذا المنهج، نعمت المنطقة، والعالم معها، بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، ونعم المسجد الأقصى المبارك بالعمران. ومتى انحرف الناس عن منهج الأنبياء وهداهم، فقدت المنطقة أمنها وسلامها، وتعرض المسجد المبارك للإهمال، بل وللتدمير، في بعض الأحيان.

لم يرتبط تاريخ المسجد الأقصى المبارك والأرض المقدسة كلها، صعودا وهبوطا، بغلبة عنصر عرقي على آخر، سواء كانوا من نسل الأنبياء أو لم يكونوا كذلك. لقد حكمه بنو إسرائيل تارة بالعدل، وكان هذا في فترة إيمانهم واتباعهم لمنهج الله الذي حمله أنبياؤهم، كما حكموه تارة أخرى بالظلم، عندما حادوا عن هدي الله. وكذلك شهدت عصور العرب فيه صعودا وهبوطا، بداية من هجرة الكنعانيين العرب إلى المنطقة في العصور التاريخية الأولى، وحتى الفتح العربي الإسلامي لها في العصور الأخيرة، وكان ذلك أيضا تبعا لمستوى إيمانهم واتباعهم لهدي الأنبياء.

وكذلك لم يرتبط تاريخ الأرض المباركة بسيادة أتباع إحدى الديانات أو الشرائع التوحيدية التي عرفتها المنطقة، بل لقد ظل المحك هو الوفاء بالعهد مع الله تعالى. وهذا العهد إنما يرتبط بصحة العقيدة، وسلامة التوحيد، والاستقامة على الشريعة التي ارتضاها الله تعالى لعباده وحملها الأنبياء، أيا كانت شخوص هؤلاء الأنبياء أو عرقياتهم. لقد ظلم أتباع موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام أنفسهم، فكتموا ما أنزل الله، وأفسدوا في الأرض المباركة، بعد صلاح، فسلط الله عليهم الكافرين من البابليين والرومان. وبالمثل، فقدت الأرض المباركة استقرارها، فاحتلها الصليبيون، ومن بعدهم الصهاينة، عندما ضعفت العقيدة في نفوس أتباع محمد عليه الصلاة والسلام، وعندما خالفوا العهد مع الله.

إنه عهد الله تعالى مع هذه الأرض المباركة، ومع المؤمنين به تعالى في كل عصر، هو عهد التمكين، وعهد الوراثة. وهو عهد متحقق دوما ما دام المؤمنون أيضا على عهدهم مع الله. فإذا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، أنجز تعالى وعده لهم، وأورثهم إياها، وإن أخلفوا العهد، لم تعد حقا لهم. 

وهذا العهد بالوراثة لا يعني إرث ملك يستحل به أتباع الرسل نزع ما يملكه الآخرون في هذه الأرض المباركة، أو اغتصاب حقوقهم. وإنما هو إرث إمامة، وإرث قوامة على الناس يمنحه الله تعالى لمن يستقيم على منهجه، أيا كان عرقه أو اسمه أو النبي الذي يتبعه. وهدف هذا التمكين هو إتاحة الفرصة لهؤلاء الأتباع الحقيقيين المستقيمين على منهج الله لإرساء العدل والحق في الأرض كلها، ورفع الظلم عن الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم.

ولا شك أن دور هذا البعد العقيدي للصراع في ازدهار المسجد والمدينة والمنطقة كلها أو انحدارها بارز. فبالأمس القريب، عندما حكمها أصحاب العقيدة الصحيحة، والمنهج القويم، عاش الجميع، من كافة الأجناس والديانات، بأمان وسلام وازدهار، لفترة لم تكن بالقصيرة. أما اليوم، فإن المشاهَد في هذه الأرض المباركة هو العدوان، والفساد، والتدمير، وانتشار جرائم الرشوة ومختلف الرذائل والموبقات، واستحلال حرمات الأنبياء والمقدسات، وذلك من جانب مدعي حقوق يتسترون وراء كتب مقدسة يقولون إنها تبرر لهم هذا الفساد وهذا العلو. 

أجل إنه الصراع الأبدي بين الحق والباطل، بين دعاة العدل والسلام للناس جميعا، وبين دعاة الحرب والظلم والعدوان. ومحله هو هذه الأرض ذات الطهر والقداسة والبركة، كما وصفها القرآن الكريم والحديث الشريف. فدورها في إظهار الحق، وكشف أهواء الباطل وتعريته، أيا كان دعاته، واضح. لذا كانت ولا زالت مأوى الأنبياء وأتباعهم الصادقين على مر العصور، والأرض التي لا يعمر فيها ظالم!

وانطلاقا من هذه الطبيعة الخاصة، نتناول قصة المسجد الأقصى المبارك، والأرض المباركة من حوله، من خلال تقسيم تاريخه إلى 8 مراحل صعود وهبوط متتابعة، ترتبط بقوة أو ضعف الإيمان بالعقيدة لدى أتباع الرسل والأنبياء. وإننا إذ نعايش المرحلة الأخيرة من هذه المراحل الثمانية، وهي مرحلة هبوط يتعرض فيها بيت المقدس للاحتلال الصهيوني، فإننا نرنو إلى مرحلة مستقبلية تاسعة، مرحلة صعود ننتظرها ونتوقعها قريبا بإذن الله، جريا على سنن التاريخ مع هذه البقعة المباركة.

 

المرحلة الأولى: البناء الأول