رسالة
حين دقت الساعة وهُدم منزل الشهيد
- التفاصيل
- المجموعة الأم: النشرة
- نشر بتاريخ الأحد, 06 كانون1/ديسمبر 2015 08:47
- الزيارات: 2416
إعداد: وكالة كيوبرس
نشر بتاريخ: 4-12-2015م
حين دقت ساعة الصفر وتطاير على أثرها رذاذ المنزل، وتبخرت الذكريات، لم تدرك زوجة شهيد المخيم من أين اجتاحها الشعور بالبرد فجأة، كأن الدفء ارتبط بجدران منزلها الذي أواها وأطفالها الخمسة، وزوجها الشهيد.
لم يعرب دوي تفجير منزلها عن تفتيت جدرانه فحسب، فانفجارات ارتدادية متتالية زلزلت كيان زوجة الشهيد، التي حاولت جاهدة الحفاظ على اتزانها قدر الإمكان، لتحتفظ بأغلى هدية تركها لها زوجها؛ خمسة أطفال أكبرهم حمزة الذي لم يتعدى سن الرابعة عشر، والذي بات منذ استشهاد والده يعتبر نفسه رجل البيت. فرغم تحطم قلبها وتصدع أركانها، إلا أنها بقيت متماسكة كي لا تزلزل رجولة "حمزة" المتنامية.
قبل التفجير
أصدرت المحكمة الاسرائيلية منذ عام تقريبا، أمر هدم لمنزل الشهيد "ابراهيم العكاري" إثر قيامه بعملية دهس، قتل فيها مستوطنين اثنين وأصيب اخرين. ومن حينها شرعت زوجة الشهيد بإخلاء منزلها من أثاثه، حتى لا تتضاعف الخسائر، وسكنت في بيت عائلة زوجها بجوار منزلها.
أما سلطات الاحتلال فلم تعرف كيفية تطبيق أمر قائد الأركان في الجيش؛ فمخيم شعفاط شمالي القدس المحتلة كما يعرف الجميع طبيعته الطبوغرافية عصيّه على الاقتحام، وكل جولات الكر والفر ومحاولات تنفيذ أمر الهدم على مدار سنة كاملة، تكللت تباعا بالفشل، في ظل تناوب أهالي المخيم لحماية منزل الشهيد، والمبيت فيه ليلا وقضاء الوقت نهارا.
وبعد مرور عام كامل - الأربعاء الماضي - باغت ما يزيد عن ألف جندي أهالي المخيم واقتحموه في ساعات الصباح، على عكس "سنّتهم" في الاقتحامات السابقة ليلا، مستغلين خروج شباب المخيم إلى أعمالهم، واندفعوا لاجتياح المخيم لتنفيذ قرارات هدم تريد رضى المجتمع الإسرائيلي الذي لمس تخبّط حكومته وفشلها.
وعمّت حالة من التأهب غير المسبوق في المخيم ومحيطه، وفرض الجنود باقتحامهم المكثف منع تجوال ضمني لم يُعلن عنه، عدا عن قناصتهم الذين اعتلوا أسطحة المنازل والمحلات التجارية لرصد أي تحرك "مشبوه"، يحيدوه برصاصة بتنا نعرف أنها إن خرجت باتجاه أي شخص قتلته.
أدخل الجنود معدات كثيرة إلى بيت الشهيد ولم يستطع أحد معرفتها إلا من خلال شريط الفيديو الذي بثته شرطة الاحتلال عبر مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات العبرية، لتفخر بنجاحها في تفجير منزل بمساحة 200 متر أرهقها لمدة عام كامل.
زرع الجنود المتفجرات في كافة أرجاء المنزل بعد أن حفروا جدرانه لتثبيتها فيها، وبدأوا بزرعها بكميات لم يعرف أحد حجمها إلا من خلال الصوت الذي زلزل أرض اللاجئين، وغيمة الغبار التي تمددت فوق بيت العكاري لتغلف محيطه بعد تفجير المتفجرات كهربائيا.
في ذلك الوقت كانت "أم حمزة" بعيدة عن منزلها، بقوة السلاح، حيث أجبرت قوات الاحتلال "آل العكاري" جميعا على الخروج من عمارتهم السكنية، وكذلك فعلت مع الجيران المحيطين بهم. ووقفت "أم حمزة" تترقب من بعيد وتتساءل، هل سيتفجر البيت فعلا؟ وتستدرك ربما تحدث معجزة لتوقف عنجهية الاحتلال وتمرده على قوانين الانسانية كافة، تراقب وتراقب إلى أن حانت الساعة التي لفظ فيها بيتها أنفاسه الأخيرة، ونثر ذكرياتها مع رذاذ جدرانه.
لم يُبق الاحتلال لها سوى رائحة الذكريات التي استنشقها كل من حضر احتضار البيت. لكنها لم تقرأ معاني تلك الذكريات في عين أي منهم، فلا أحد يعرف كم سهرت وشقيت وكم فرحت وكم قهقهت مع أولادها، لا أحد يعرف أن تحت ركام منزلها كانت الحبوة الأولى لنجل بطلها، فرحتهم الأولى كانت هنا.
بعد انسحاب قوات الاحتلال من المخيم وسط رشقهم بالحجارة والزجاجات النارية من شبابه، وانشغال البعض الأخر من أهالي المخيم بتفقد أشلاء المنزل التي تناثرت ووصلت إلى داخل البيوت المجاورة؛ كانت "أم حمزة" تجتهد في السيطرة على أنفاسها ودموعها، وتحاول إغلاق أنفها لتمنع رائحة البيت من دخول رأسها، واستقبلت معزييها بكلمة الحمد لله، والصمت.
أصاب البيت الذي سكنت فيه "أم حمزة" وأطفالها وكذلك جميع بيوت "آل العكاري" التصدعات والشروخ، فكان من الضروري ترميمها بأسرع وقت، إلا أن "آل العكاري" بالإضافة إلى أهالي المخيم تركوا جدران بيوتهم المتصدعة وأخذوا يتعاونون على إزالة ركام البيت، في مشهد جسّد لُحمة وطنية بكل ما تعنيه الكلمة، ولم يسيطر عليهم إلا هدف إعادة بناء منزل الشهيد الذي اعتبروه أيقونة فلسطينية يشحنون بها أنفسهم.
وإيمانا من عقيدتهم بأن الشهداء لا يموتون، أحب أهالي المخيم أن يعتبروا الشهيد ابراهيم العكاري حيا بينهم، وأخذوا يتساءلون لو أنه بينهم الآن ورأى بيته تحطم، ما كان عساه أن يفعل يا ترى؟
فتمثل الرد بتقديم منزل جديد جميل وفرش منزلي حديث، تعيش فيه أسرة الشهيد إلى حين اعادة تشييد منزلهم، الذي قرر أهل المخيم أن يبنى في خلال أشهر معدودة، لتعود العائلة وتسكن في "أيقونة المخيم".
أحسّت "أم حمزة" حينها أن روح الشهيد تحيط بهم مطمئنة على حالهم، وشعرت أنها ليست وحيدة بعد أن أصبح المخيم، جميعه، بيتا لها وسكانه أسرتها الكبيرة.